في ردّ سياسي ودبلوماسي تاريخي على “شائعات التطبيع” مع إسرائيل، التي لم يعلّق عليها أيّ مسؤول سعودي حتّى الآن، عيّنت المملكة العربية السعودية أوّل سفير لها لدى “دولة فلسطين” في تاريخها، وقنصل عامّ في القدس، وهو نايف بن بندر السديري، بصفة “سفير فوق العادة” مفوّض وغير مقيم لدى فلسطين.
هكذا قطعت كلّ الشائعات التي يقودها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو وشلّته عن تطبيع وشيك بين الرياض وتل أبيب على حساب القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف، وأكّدت أنّ هذه الشائعات ما هي إلا أحلام يقظة تراود نتانياهو والساسة الإسرائيليين، لأنّ السعودية مازالت تتمسّك بالمبادرة العربية للسلام التي أطلقت من قمّة بيروت في 2002، ومبادئها الأساسية هي “الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة حتى خط الرابع من حزيران 1967، والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية”.
عيّنت المملكة العربية السعودية أوّل سفير لها لدى “دولة فلسطين” في تاريخها، وقنصل عامّ في القدس، وهو نايف بن بندر السديري، بصفة “سفير فوق العادة” مفوّض وغير مقيم لدى فلسطين
مسؤول فلسطيني مطّلع على هذا الملف كشف لـ”أساس” أنّ هذه الخطوة “ما فوق العاديّة في توقيتها وأبعادها، هي رسالة قويّة من الرياض إلى تل أبيب بأنّ فلسطين كانت وستبقى القضية المركزية للعرب والمسلمين، وهي دليل دامغ من قيادة المملكة السعودية على أنّ أيّ حلّ سياسي في المنطقة لن يكون على حساب حقوق الفلسطينيين، وفي مقدَّمها دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس”. واعتبر المسؤول الفلسطيني أنّ المملكة ردّت على شائعات التطبيع مع إسرائيل، بدون تسويات حقيقية للملفّ الفلسطيني، فعلاً لا قولاً، وأكّدت نيّتها تقوية السلطة الفلسطينية.
في هذا الإطار، التقى أمس الرئيس محمود عباس، في مدينة العلمين، الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، لمناقشة الجهود الأميركية للتوصّل إلى اتفاق بين السعودية و”إسرائيل”، ومطالب الفلسطينيين في إطار مثل هذا الاتفاق، وسبل التعامل مع رفض “إسرائيل” تقديم تنازلات للفلسطينيين وتصعيد عنف المستوطنين في الضفة الغربية.
تأتي هذه التطوّرات في خضمّ ضخّ إعلامي إسرائيلي غير مسبوق في حجمه وكثافته وتدفّقه عن قرب التوصّل إلى اتفاق تطبيع بين إسرائيل والمملكة، وأنّ واشنطن هي عرّابة هذه المساعي.
نتنياهو وبايدن مستعجلان… وليس المملكة
في المقابل، تحدّث نتانياهو بكلّ تعجرف عن مساعي التطبيع مع الرياض، في لقاء مع شبكة بلومبرغ الأميركية، وأكّد رفضه فكرة الدولة الفلسطينية وعدم التعهّد بوقف الاستيطان، بينما وزّع مسؤولون إسرائيليون أحاديث متفرّقة مفادها أن “ليس هناك ما سنقدّمه للفلسطينيين، ولن يكون تجميدٌ للبناء الاستيطاني حتى لثانية واحدة”، وأنّ “الصفقة مع السعودية مصلحة أميركية حقيقية لا تقدّم معروفاً لتل أبيب، بل بالعكس نحن الذين سنقدّم معروفاً للبيت الأبيض، لأنّنا سنضمن تمريرها في مجلس الشيوخ”، وأنّ “واشنطن تبذل مساعي هائلة للتوصّل إلى هذه الصفقة، فهي مهمّة بالنسبة لها في المنافسة مع الصين والسيطرة على مناطق كثيرة من ضمنها الشرق الأوسط”.
الرئيس الأميركي بايدن مهتمّ على نحوٍ خاصٍّ بإنجاز اتفاق “التطبيع” بين السعودية ودولة الاحتلال، حتى لو كان هذا الاتفاق مبدئياً أو جزئياً، لكنّه لا يعي بالقدر نفسه أنّ اتّفاقاً كاسحاً كهذا مستحيل من دون اختراق حقيقي في ملفّ عملية السلام. لكن لم يصدر عن أيّ مسؤول سعودي أيّ إشارة إلى تراجع المملكة عن مبادرتها للسلام. وكلّ تصريحات المسؤولين السعوديين تؤكّد التمسّك بهذه المبادرة شرطاً لأيّ سلام مع إسرائيل.
حذّر المستوى الأمني في تل أبيب من أن يؤدّي اتفاق التطبيع مع السعودية إلى المساس بالتفوّق العسكري الإسرائيلي في المنطقة
لكن ماذا تريد أميركا؟
الكاتب والخبير في الشأن الإسرائيلي أكرم عطاالله، كشف في حديث لـ”أساس” أنّ ما يحرّك السياسة الأميركية، ويدفعها إلى أن تكون عرّابة اتفاقية تطبيع بين تل أبيب والرياض، ثلاث مسائل على قدر من الأهمية:
– الأولى: اعتقاد أميركي بأنّ التطبيع قد يضعف السعودية أمام الرأي العام العربي، والسنّي خصوصاً، بعدما بدأت تدير سياسة خارجية متمرّدة على الرغبة الأميركية وتتهيّأ لقيادة المنطقة. يغيب عن الذين يروّجون لهذه الحكاية أنّ الرأي العام العربي بات يرى في إيران التي تحتلّ دولاً عربية “احتلالاً” أكثر نهماً وخطراً على مدن العرب ودولهم من إسرائيل التي يمكن أن تتفاوض على حلّ الدولتين.
– والثانية: إبعاد السعودية عن محور الصين ومحاولة إجهاض علاقتها مع إيران.
– والثالثة: هي وضع نتانياهو أمام خيار الإغراء بالتطبيع مقابل التنازل في الملف الفلسطيني، وفي هذا التنازل ما يفكّك حكومة نتانياهو الدينية الحالية، ويعيد تشكيلها من الأحزاب الإسرائيلية اليسارية المنسجمة أكثر مع واشنطن والقيم الليبرالية.
وإلّا فكيف نفهم سابقة الانتقادات المعلنة من بايدن لنتانياهو وفي الوقت نفسه السعي إلى مكافأته؟
في الإطار ذاته، حذّر المستوى الأمني في تل أبيب من أن يؤدّي اتفاق التطبيع مع السعودية إلى المساس بالتفوّق العسكري الإسرائيلي في المنطقة. إذ نقلت هيئة البثّ الإسرائيلية “كان” عن جهاز الأمن الإسرائيلي أنّه “يعمل على إعداد رأي في خطورة بيع وسائل قتالية ومنظومات أسلحة أميركية متقدّمة إلى السعودية يكون جزءاً من اتفاق يؤدّي إلى التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية”.
شروط المملكة السعودية، التي يجري الحديث عنها، لتحقيق التطبيع بين المملكة وإسرائيل، هي:
– توقيع الولايات المتحدة على اتفاقية دفاع مشترك مع المملكة على غرار اتفاقية الناتو.
– بناء مفاعل نووي سلميّ في المملكة بمساعدة الولايات المتحدة.
– وصول المملكة إلى الأنظمة الدفاعية العسكرية التكنولوجية العالية التطوّر الموجودة بالفعل لدى أعضاء حلف الناتو.
– وبالطبع حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفق مبادرة السلام العربية التي طرحتها المملكة عام 2002.
الأكيد أنّ المملكة العربية السعودية ليست بحاجة إلى اتفاقية تطبيع مع تل أبيب لا تلبّي شروطها واحتياجاتها ومصالحها، وليست في عجلة من أمرها، فهي تستطيع أن تنتظر ولن تخسر شيئاً جوهرياً، وتعتبر نفسها في الجانب الآمن بفضل قوّتها وإمكانياتها الهائلة.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: الجيش يحمي “الديمقراطية”.. بوجه نتنياهو؟
وفق حقائق السياسة والاقتصاد فإنّ لدى المملكة وضعاً تفاوضيّاً قويّاً للغاية بالمقارنة مع الوضع التفاوضي لكلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة. فالسعودية تعيد رسم سياستها الخارجية بالنظر إلى موقعها السياسي الإقليمي. خصوصاً أنّها واحدة من أهمّ الأسواق الاقتصادية في العالم، وتعيد بناء اقتصادها بحيث لا يعتمد مستقبلاً على إنتاج النفط فقط. وهي بدأت تعيد تشكيل ثقافة دينية أكثر مرونة وذات قبول عالمي، وتسعى إلى توسيع مروحة خياراتها السياسية وتحالفاتها الاستراتيجية.
في حين يبقى عامل الوقت سيفاً مُسلّطاً على رأس الرئيس الأميركي، بسبب اقتراب الانتخابات الأميركية الرئاسية، إذ يحتاج إلى تسويق إنجاز التطبيع بين إسرائيل والمملكة لدى الشعب الأميركي، وعلى رأس نتانياهو الذي يلهث نحو تحقيق حلم التطبيع مع في ذروة أزمته الداخلية.