بعد ساعات من إعلان الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة تلفزيونية في 9 آب الجاري أنّ نظامه يحارب الإرهاب، ارتكب تنظيم داعش مجزرة راح ضحيّتها عشرات من الجنود السوريين بين قتيل وجريح. جرى الأمر باستهداف حافلة عسكرية في بادية الميادين في ريف دير الزور. يطرح الحدث أسئلة بشأن توقيت استفاقة هذا التنظيم الذي سبق للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن أعلن نهايته في آذار 2019.
ليس للتنظيم الإرهابي أجندة مفهومة يمكن أن يتمّ رصدها في تاريخ هجماته ضدّ السُّنّة والأكراد والشيعة والمسيحيين والأيزيديين وغيرهم. لم تكن بوصلته موجّهة يوماً صوب فلسطين ولم يجارِ طموحات الطامحين إلى تغييرٍ ينقل المنطقة من استبداد إلى حداثة. وتحت ظلّ لافتاته الإسلامية، أمكن لهذا التنظيم تنفيذ أجندات متعدّدة متناقضة ضدّ أهداف مختلفة في سوريا والعراق أو في إفريقيا هذه الأيام وغيرها.
يُجمع خبراء التنظيمات الإرهابية على أنّ لداعش فروعاً ومراجع كثيرة تحرّك أعمالها. فأجندة من يهاجمون الجيش السوري تختلف عن أجندة من يهاجمون القوات الكردية أو الميليشيات الشيعية أو القوات الأميركية أو الروسيّة. وإذا ما أهملنا بحث خطط داعش في منطقة الساحل الإفريقي وسلّطنا المجهر فقط فوق الميدان السوري، فإنّ نظريات المؤامرة ستتدافع لتفسير استفاقة التنظيم ومن يقف وراء الأمر من دون حسم واقعي ونهائي.
بعد ساعات من إعلان الرئيس السوري بشار الأسد في مقابلة تلفزيونية في 9 آب الجاري أنّ نظامه يحارب الإرهاب، ارتكب تنظيم داعش مجزرة راح ضحيّتها عشرات من الجنود السوريين بين قتيل وجريح
فوائد الأسد وإيران من داعش
يستفيد النظام في سوريا من إعادة توجيه الأنظار نحو أخطار الإرهاب التي يتعرّض لها من قبل هذا التنظيم بالذات الذي قام تحالف في أيلول 2014 من 86 دولة لمكافحته. يُبعد الأمر عنه كأس التسوية السياسية وما يتطلّبه الأمر من تنازلات يشير إليها القرار الأممي 2254 الصادر في كانون الأول 2015 عبر إقامة مرحلة انتقالية واتفاق سياسي تكون المعارضة جزءاً منه. والواضح، من خلال ما تسرّب من مقابلة الأسد، أنّ دمشق غير مستعدّة، وعلى الرغم من ضغوط التطبيع العربي مع نظامه، للعبور إلى أيّة تسوية وفق التمسّك بسردية لا تعترف بمشكلة ومعارضة وأزمة حكم.
وتستفيد إيران من همّة التنظيم المستجدّة لإعطاء مبرّر لانتشار الميليشيات التابعة لها في منطقة البادية وللحشود العسكرية التي يجمعها الحزب وبقيّة الميليشيات الولائية هناك. الأمر يفسّر تحرّك قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري إسماعيل قاآني في سوريا (وقيل في لبنان أيضاً) الذي يوحي باستعدادات ما لمواجهة أمر جلل. ولأنّ كثيراً من الشبهات تدور بشأن علاقة ملتبسة بين التنظيم الإرهابي ومخابرات دمشق وطهران، فإنّ تحرّك “داعش” الذي على الرغم من امتلاء المنطقة بميليشيات طهران، يبثّ شكوكاً في مرجعية هذه الهجمات والآمر بها.
فوائد الأكراد وأميركا من عودة داعش
أيضاً يستفيد الأكراد، وهم عصب قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، من ظاهرة “داعش” الحديثة لإعادة تقديم أنفسهم رأس الحربة في المنطقة ضدّ الإرهاب. الحدث يضمن أيضاً تراجع احتمالات الانسحاب الأميركي من سوريا وتخفيف ضغوط الكونغرس على الإدارة الأميركية في واشنطن بهذا الصدد. الأمر يعزّز أيضاً وأيضاً منطقاً يروّجون له ويربطون من خلاله حراك “داعش” بحراك تركيا ضدّهم، بما يجعلهم ضحيّة إرهاب من جهة، وضحيّة من يعتبرهم تنظيماً إرهابياً تابعاً لحزب العمّال الكردستاني المصنّف إرهابياً على اللوائح الدولية من جهة أخرى.
تستفيد الولايات المتحدة من هذه الفوضى التي يحدثها التنظيم في منطقة داخل سوريا راجت بها في الآونة الأخيرة التهديدات السياسية والتحرّكات العسكرية الموحية بحرب شاملة ضدّ الوجود الأميركي في الشرق السوري. وكان لافتاً توقيت تصريح وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في حضرة نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في طهران في 31 تموز الماضي في هذا الصدد، إذ قال إنّ “من الأشرف للجيش الأميركي والأفضل له أن ينسحب من الأراضي السورية قبل أن يُجبر على الانسحاب منها”. وكان واضحاً أنّ الوزير السوري ينطق بلسان إيران وروسيا بما أوحى لواشنطن بجسارة المخاطر. وعلى هذا فإنّ تحرّكاً داعشياً على هذا المستوى من النوعيّة والخطورة، يشغل القوى العسكرية المعادية للولايات المتحدة ويشتّت خططها ضدّ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
يستفيد النظام في سوريا من إعادة توجيه الأنظار نحو أخطار الإرهاب التي يتعرّض لها من قبل هذا التنظيم بالذات الذي قام تحالف في أيلول 2014 من 86 دولة لمكافحته
روسيا أيضاً تستفيد.. وتركيا
تستفيد روسيا كذلك على منوال استفادة دمشق وطهران من عبث إرهاب يُربك الحسابات الأميركية التي برّرت الدفع بآلاف من الجنود ومقاتلات F-35 وF-16 وسفن حربية استراتيجية وتعزيزات كبرى شملت إرسال غوّاصة “يو إس إس فلوريدا” الاستراتيجيّة النووية لدعم أسطولها الخامس. بعض حوافز واشنطن، غير تلك المتعلّقة بأمن مياه الخليج، جاء ردّاً على استفزازات واحتكاكات خطيرة متكرّرة تقوم بها ميليشيات إيران أرضاً ومقاتلات روسيّة جوّاً ضدّ القوات الأميركية في سوريا. يساهم الإرهاب بالنسبة للحلف الثلاثي (دمشق، طهران، موسكو) في إعادة خلط الأوراق وفق قواعد أخرى في ظلّ تراجع قدرات القوى العسكرية الروسيّة في سوريا، التي سُحب أفضلها صوب أوكرانيا، عن فرض خرائط نهائية في ميادين السياسة والأمن والعسكر.
بشكل مباشر أو غير مباشر تستفيد تركيا من ضغوط يمارسها تنظيم داعش ضدّ القوات السورية في المنطقة وانتشار ميليشيات إيران داخلها. يجري الأمر على خلفيّة عودة التوتّر في علاقة أنقرة ودمشق، وفق ما أكّده الأسد في المقابلة من رفض للقاء نظيره التركي رجب طيب إردوغان، ورواج الحديث عن سيناريوهات عسكرية تتقاطع داخلها مع الولايات المتحدة في تركيا وتهدف من ضمن ما تهدف إلى استنهاض العشائر العربية للتصدّي للوجود الإيراني، الذي بات الجيش السوري نفسه جزءاً من مشهده، وإقفال الممرّات الاستراتيجية التي تطمح طهران إلى أن تسيطر عليها والتي تمرّ بالعراق وسوريا صوب لبنان.
يمكن لكلّ تلك الفرضيّات أن تنسحب على مصالح أيّة قوى محلّية أو إقليمية (إسرائيل خصوصاً) أو دولية منخرطة في الشأن السوري. وهي فرضيّات لا تنتهي وتلتقي مع فرضيّات رافقت التنظيم منذ ولادته، ولا سيّما حين استولى مطلع عام 2014 على الفلّوجة في العراق والرقّة في سوريا، ثمّ سيطر على الموصل وتكريت في حزيران واجتاح الحدود مع سوريا.
إقرأ أيضاً: هل تحيي المفاوضات السعوديّة الأميركية حلّ الدولتين؟
إذا ما تعطّلت الأجوبة النهائية عمّن وقف وراء القدرات المالية والتسليحية واللوجستية لهذا التنظيم وكفاءاته العسكرية خلال سنوات انتشاره وتوسّعه على رقعة واسعة في العراق وسوريا، فإنّ الأجوبة قد تبدو مفقودة لتفسير “معجزاته” الأخيرة. فقوات التنظيم تتحرّك بأعداد كبيرة وبكثافة ورشاقة داخل بادية تمتدّ على نصف مساحة سوريا، فيما الأجواء تعجّ بمقاتلات أميركية وروسية، ناهيك عن مسيّرات المراقبة ومواهب الأقمار الصناعية.
يبرز حدث “داعش” في البادية السورية وسط معلومات يتمّ تداولها عن دفع الولايات المتحدة بآلاف من قوّاتها داخل العراق، لا سيما على الحدود مع سوريا. يضيف الأمر شكوكاً إلى شكوك بشأن غياب أيّ اعتراض لقوات “داعش” التي تهاجم وتنسحب وتترك وراءها أكثر من العشرات بين قتيل وجريح في صفوف الجنود السوريين، وتترك أيضاً الكثير من الأسئلة بشأن ما يُخطَّط لشرق الفرات في سوريا ويضمن لداعش الدور والوظيفة والمكانة.