مرّت تصريحات وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني رياض المالكي الذي تحدّث عن “خيبة أمل” السلطة الفلسطينية من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، من دون أن تستدعي ردّات فعل مهمّة، بيد أنّ الغوص قليلاً في بطن هذه التصريحات يكشف مسلسلاً من الخيبات التي عاشها ويعيشها وسيتلقّاها الفلسطينيون على الأغلب.
للخيبة هذه التي تحدّث عنها المالكي، المستقرّ في منصبه منذ نحو 14 عاماً والمقرّب من الرئيس محمود عباس، دلالتها في سياق الحالة الفلسطينية العامّة، وهي حالة غاية في التعقيد وعدم الاستقرار، وليست بحاجة على الإطلاق إلى جرعة جديدة من الإحباط.
سرّ كلام المالكي
يبدو، والحال هذه، أنّ المالكي المعروف بعزوفه عن الصحافة والصحافيين، قد أطلق مثل هذه التصريحات بناء على رغبة القيادة الفلسطينية التي لم تخفِ أبداً امتعاضها من طريقة تعامل إدارة بايدن مع ملفّ عملية السلام مع إسرائيل، وهي العملية المجمّدة منذ عشر سنوات تقريباً، وزادت في تعقيدها قرارات إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، ولا سيما اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها.
الجديد في مبرّرات الخيبة من الإدارة الأميركية، قول المالكي إنّ “فلسطين تتّجه بشكل متزايد إلى الصين التي تدعم نيلها عضوية كاملة في الأمم المتحدة، للحصول على المساعدة”. وهي تصريحات غير معهودة من قيادة السلطة الفلسطينية المتمسّكة بالرعاية الأميركية لعملية السلام على الرغم من السنوات العجاف مع ترامب.
الجديد في مبرّرات الخيبة من الإدارة الأميركية، قول المالكي إنّ فلسطين تتّجه بشكل متزايد إلى الصين التي تدعم نيلها عضوية كاملة في الأمم المتحدة، للحصول على المساعدة
لكن ليس في أفق الصيف الحالي اللاهب ما يبشّر ولو بخريف رطب. وفي حين يزداد امتعاض السلطة الفلسطينية من عدم مبالاة إدارة بايدن وتمسّكها بترديد شعار حلّ الدولتين من دون أيّ خطوات عمليّة، يكثّف بايدن جهوده لصالح إسرائيل بسعيه المتزايد والضغط باتجاه تحقيق اتفاق “تطبيع” بين السعودية وإسرائيل.
وهو احتمال، وإن كان مستبعداً في المستقبل المنظور ما لم تتمّ تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإنّ من شأن التلويح به وحده أن يحرّك مكامن خوف الفلسطينيين واستحضار مزيد من توقّعات خيبات الأمل في حلّ قضيّتهم حلّاً يضمن الحدّ الأدنى من حقوقهم.
ليست اتفاقات “إبراهيم” التي أنجزتها إدارة الرئيس السابق بين إسرائيل ودولة الإمارت العربية المتحدة والبحرين، بعيداً عن حقوق الفلسطينيين، سوى دليل آخر على المدى الذي يمكن أن تذهب فيه أميركا لإرضاء ودعم إسرائيل على حساب الفلسطينيين وغيرهم.
في حينه، قالت الإمارات العربية إنّها وافقت على التطبيع مع إسرائيل مقابل تعهّد من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامن نتانياهو بوقف إجراءات ضمّ الضفة الغربية. ذهب نتانياهو لبرهة وعاد سريعاً على رأس حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة لا تعترف أصلاً بوجود الفلسطينيين، وبقي اتفاق التطبيع والاستيطان في الضفّة الغربية يتمدّدان.
لا أحد كان سيتصرّف بشعور الخيبة مع دونالد ترامب. ومع بايدن يبدو الدرب وكأنّه ذاته.
يراهن المالكي والقيادة الفلسطينية على استبدال أميركا بالصين لرعاية عملية السلام المتوقّفة منذ سنوات، كما جاء في تصريحاته الأخيرة
الدرب واحد مع بايدن كما ترامب
لا أحد يتحدّث عن احتمال تراجع أميركا عن قرار نقل السفارة إلى القدس، بل لا أحد يذكر الحديث عن إعادة فتح مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية المغلق في واشنطن، ولا عن قرارات الكونغرس وقوانينه المتعلّقة بفرض قيود مشدّدة على تقديم مساعدات للسلطة الفلسطينية التي تعاني من عجز مستدام بفعل الاقتطاعات التي تفرضها إسرائيل على إيرادات الفلسطينيين التي بين يديها. بل إنّ الفلسطينيين أنفسهم قد أعمتهم الخيبات والضربات المتلاحقة، ولم يعودوا يفطنون إلى هذه الوقائع إلا ما ندر.
وهي كذلك خيبات لا ترتبط فقط بعلاقات الفلسطينيين مع خصومهم الإسرائيليين ولا مع الإدارات الأميركية التي تعاقبت منذ انطلاق عملية السلام عام 1993 على صدّ مطالب الفلسطينيين وتوزيع الأوهام عليهم، لكنّها أيضاً مرتبطة بالوضع الفلسطيني الداخلي الذي تعوّد على الانقسام وخبر التشرذم على مدار عقود.
بعد أشهر من سقوط الضحايا برصاص الجيش والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية المحتلّة في عمليات اقتحام متواصلة لمدن جنين ونابلس وأريحا كادت تؤدّي إلى صدامات داخلية، التقى ممثّلو الحركات والفصائل الفلسطينية مجدّداً في مدينة العلمين الجديدة في مصر على أمل التوصّل إلى اتفاق ينهي سنوات طويلة من الانقسام.
لكنّ اللقاء الذي تغيّبت عنه حركة الجهاد الإسلامي التي تُعتبر رأس حربة المقاومة المسلّحة في الضفة الغربية لاعتراضها على مواصلة اعتقال أجهزة الأمن الفلسطينية لعدد من عناصرها، لم ينجح حتى في التوصّل إلى بيان ختامي مشترك.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: المستقبل الذي ينتظر “بقرة حمراء”
تفرّق الأفرقاء المجتمعون في ظلّ إعلان أنّ اجتماعهم “في انعقاد دائم”، وأنّهم سيشكّلون لجنة تبحث التوصّل إلى اتفاق جديد، يضاف إلى سلسلة اتفاقات سابقة، ربّما مشابهة في عدم التنفيذ، لكنّها مختلفة باختلاف التواريخ والعاصمة التي شهدتها.
تلك كانت خيبة أخرى توقّعها الجميع ولم تصدم أحداً، لكنّ مسلسل الخيبات لم يلبث أن افتتح موسماً جديداً، هذه المرّة في عين الحلوة في لبنان باشتباكات بين حركة فتح وجماعات إسلامية عناصرها طبعاً فلسطينيون.
يراهن المالكي والقيادة الفلسطينية على استبدال أميركا بالصين لرعاية عملية السلام المتوقّفة منذ سنوات، كما جاء في تصريحاته الأخيرة، لكن إذا ما تذكّرنا أنّ حجم التبادل التجاري بين إسرائيل والصين (نحو 25 مليار دولار) يفوق الناتج المحلّي الإجمالي في فلسطين (الضفّة الغربية وغزّة نحو 20 مليار دولار)، سنكون في صدد خيبة أمل فلسطينية أخرى.
*كاتب فلسطيني