ساهمت هجمات المستوطنين الإرهابية في الضفّة الغربية في تأجيج الخلاف بين قادة المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية وبين رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ووزراء المستوطنين في الحكومة، وهو خلاف من المتوقّع أن يتفاقم في الفترة المقبلة بصورة أكبر، ليضاف إلى الانقسام الحاصل في المجتمع الإسرائيلي، بسبب خطّة الإصلاح القضائي.
تباين بين الجيش والمستوطنين
لا يمكن الشكّ في أنّ الحكومة الإسرائيلية تدافع بشراسة عن إرهاب المستوطنين، وتشجّع عليه، من خلال عدم محاسبة المستوطنين الذين ينفّذون عمليات إرهابية. ومؤشّرات ذلك كثيرة، فوزير المالية بتسلئيل سموتريتش طالب بمحو قرية حوارة من الوجود بعد اعتداءات المستوطنين عليها وحرقها قبل أشهر، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير طالب بمنح وسام تقدير للمستوطن الذي قتل الشاب قصي معطان قبل أيام في رام الله بدلاً من محاكمته، إضافة إلى إقامة العديد من البؤر الاستيطانية على أراضي الفلسطينيين الخاصة بتشجيعٍ من الحكومة ونتانياهو شخصياً.
يستقوي اليمين المتطرّف بوجوده النافذ في الحكومة لتنفيذ خططه الرامية إلى حسم الصراع مع الفلسطينيين، ضارباً عرض الحائط بالموقفين الأميركي والدولي اللذين يدينان هجمات المستوطنين على الفلسطينيين، وينتقد قادةَ المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية ويحرّض عليهم وعلى المعارضين له، ويوفّر الدعم والإسناد والمؤازرة لعصابات المستوطنين مثل “فتية التلال” الذين يرتكبون جرائم قتل بحقّ الفلسطينيين، كما حدث مع المستوطن الذي قتل فلسطينياً قبل أيام قرب رام الله، وتبيّن أنّه كان يعمل في حزب بن غفير، وناشطاً في شبيبة التلال، وقد تمّ الإفراج عنه لاحقاً.
لا يمكن الشكّ في أنّ الحكومة الإسرائيلية تدافع بشراسة عن إرهاب المستوطنين، وتشجّع عليه، من خلال عدم محاسبة المستوطنين الذين ينفّذون عمليات إرهابية
من المهمّ معرفة أنّ انتقاد قادة المؤسسة العسكرية لإرهاب المستوطنين وقادتهم لا يرتبط بأيّ صلة بالاعتراف بالفلسطينيين أو بحقوقهم أو لمنع تعرّضهم للقتل والتدمير، فالجيش الإسرائيلي نفسه يمارس الإرهاب والقتل والتدمير، ويوفّر الحماية الدائمة لقطعان المستوطنين أثناء تنفيذ هجماتهم على القرى والبلدات، ولذلك تأتي هذه الانتقادات في سياق الخلافات الداخلية المحتدمة على خطّة الإصلاح القضائي. إذ ترى المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية أنّها المكلّفة الوحيدة بمواجهة الفلسطينيين وقتلهم وتدميرهم، ولا تريد للمستوطنين القيام بهذه المهمّة لأنّ ذلك يجنّب إسرائيل الانتقادات الدولية على أقلّ تقدير. وترى المؤسّسة الأمنيّة أنّ تلك الجرائم تعرقل مسعاها إلى السيطرة على الأوضاع الأمنيّة المتفاقمة في الضفّة الغربية، وتزيد من تنامي المقاومة والعمليات المسلّحة ضدّها، خاصة أنّ الجيش فشل من خلال كلّ عمليّاته العسكرية التي قام بها منذ آذار 2022 (عملية كاسر الأمواج) إلى العمليات في مخيّمات الضفّة على غرار ما جرى في جنين، في تحقيق ذلك. وفي إطار هذا التصوّر ترى المؤسّسة الأمنيّة أنّ جرائم المستوطنين تدفع الفلسطينيين نحو المزيد من المقاومة والمزيد من شنّ عمليات ضدّ أهداف إسرائيلية، وهو ما يستنزف الجيش.
على الرغم من ذلك دائماً ما يوفّر جيش الاحتلال الحماية للمستوطنين خلال هجماتهم على الفلسطينيين، وإن كان يحاول الحفاظ على تماسك المؤسّسة العسكرية ومتانتها، ويرفض تحويلها إلى تابعة لليمين وأداة في يد اليمين والمستوطنين، مع إدراكه أنّ انفلات عقال المستوطنين بسبب تلقّيهم دعماً سياسياً وماليّاً، سيزيد من الضغوط على الجيش ويجعله في حالة تأهّب أمنيّ تحسّباً لردود الفعل الفلسطينية، في وقت تتفاقم فيه الأضرار في وحداته بسبب رفض الخدمة.
انعكس التوتّر بين الحكومة والمؤسّسة العسكرية على تحليلات الإعلام العبري. وقد لخّصها المحلّل العسكري عاموس هرئيل بالقول إنّ التوتّر بين نتانياهو ووزرائه وبين قيادة الجيش ملحوظ في أيّ اجتماع بينهم، مضيفاً أنّ “قسماً من الوزراء لا يُخفي عداءه تجاه الجنرالات، وتجاه جميع المسؤولين في جهاز الأمن، ومزاعم اليمين عن انقلاب عسكري تمّ تنفيذه علناً ليست مجرّد تنفيس، إنّما تهديد واضح قُبيل الخطوات المقبلة” في خطّة إضعاف جهاز القضاء.
لا يقتصر الخلاف في إسرائيل بين قادة الحكومة والمؤسّسة العسكرية، بل يبرز أكثر في الشارع الإسرائيلي، الذي من غير المستبعد أن يشهد اقتتالاً بين عناصر اليمين ومعارضيهم. فعناصر اليمين يرون أنّهم باتوا الآن أقوى من أيّ وقت مضى، وهم ماضون عبر الائتلاف الحاكم إلى المصادقة على الخطّة القضائية التي ستترتّب عليها تداعيات كبيرة ستطال الجيش والمؤسّسة العسكرية بالدرجة الأولى. وقد بدا التعبير عن ذلك العداء واضحاً حين عبّر المستوطنون على شبكات التواصل الاجتماعي عقب عملية تل أبيب التي نفّذها الشهيد كمال أبو بكر أخيراً عن استيائهم من عدم تمكّنه (المنفّذ) من الوصول إلى شارع كابلان في تل أبيب، وتنفيذ عمليّته ضدّ المعارضين للتعديلات القضائية، إذ كتب أحدهم حسب ما رصدت القناة 12 العبرية: “نأسف لعدم قدرته على الوصول لكابلان، وتنظيف تلك الزبالة”، بينما كتب آخر: “كان علينا مساعدة المخرّب في الوصول لكابلان”.
لا يقتصر الخلاف في إسرائيل بين قادة الحكومة والمؤسّسة العسكرية، بل يبرز أكثر في الشارع الإسرائيلي، الذي من غير المستبعد أن يشهد اقتتالاً بين عناصر اليمين ومعارضيهم
جزرة إسرائيل المعطوبة
عزّز توجّه نتانياهو الدعائي إلى تقديم تسهيلات للسلطة الفلسطينية غضب حلفائه من اليمين الذين عارضوها وانتقدوها بشدّة وسط تأييد المؤسّسة العسكرية لها لأنّها ترى فيها ضرورة لتمتين السلطة ودعم موقفها.
إنّ “الجزرة” التي ينوي نتانياهو ووزير حربه يوآف غالانت تقديمها إلى الفلسطينيين، تلبية للضغوط الأميركية، تبدو دعاية كبيرة أجادت إسرائيل القيام بها دائماً لتضليل الرأي العامّ المحلّي والدولي والعربي.
يعتقد نتانياهو أنّ تقديم تسهيلات مجزوءة للسلطة يمكن أن يماطل كثيراً في تنفيذها، وقد تخفّف من حجم الضغوط الأمريكية عليه، خاصة أنّ إدارة بايدن تلقّت وعداً من الحكومة الإسرائيلية بتقديم تلك التسهيلات خشية انهيار السلطة وتراجع دورها. ويستطيع ربط تقديمها بتحقيق جملة أهداف، أهمّها تعزيز السلطة الفلسطينية، وتحديداً في المجال الأمنيّ في الضفّة الغربية، بما يشمل مواجهتها لمجموعات المقاومة في الضفّة وتفكيكها، وخاصة في جنين، وزيادة التنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية، وتحقيق التهدئة في الضفّة الغربية، إلى جانب جملة شروط تتعلّق بوقف الدعاوى القضائية والملاحقة السياسية لإسرائيل على الساحة الدولية، ووقف التحريض في المنظومة الإعلامية والتعليمية للسلطة الفلسطينية، ووقف رواتب الأسرى وعائلات الشهداء، ووقف البناء في مناطق C.
ما ينوي نتانياهو تقديمه من تسهيلات متمثّلة بإنشاء منطقة صناعية جديدة في ترقوميا بمنطقة الخليل، وتمديد ساعات عمل جسر اللنبي (معبر الكرامة)، وإعادة جدولة ديون السلطة المستحقّة التي تقدّر بـ500 مليون شيكل، هو في الحقيقة ليس ذا قيمة كبرى ولن يكون له في حال تقديمه تأثير استراتيجي على وضع السلطة السياسي والاقتصادي، ولذلك هذه التسهيلات “جزرة” معطوبة وفاسدة تستطيع إسرائيل شطبها وإبطالها جميعاً بجرّة قلم.
يطمح نتانياهو من دعايته التضليلية بشأن تقديم هذه التسهيلات للسلطة إلى أن تمنحه دفعة نحو تحقيق إنجاز سياسي كبير لحكومته، بالتوصّل إلى اتفاق مع السعودية، حتى لو اقتصر ذلك الاتفاق على التعاون الاقتصادي من دون الاعتراف المتبادل بينهما وتوقيع اتفاقية لتطبيع العلاقات.
إقرأ أيضاً: إسرائيل: المستقبل الذي ينتظر “بقرة حمراء”
في الملخّص، لن تُجدي “جزرة” التسهيلات التي ينوي نتانياهو تمريرها لصالح السلطة الفلسطينية، في تغيير الواقع، فالمستوطنون الذين يمارسون عربدة يومية في مدن وقرى وبلدات الضفّة الغربية لا يجدون من يردعهم سوى الفلسطينيين، وهذه العربدة تزيد يومياً من إحراج السلطة وهزّ مكانتها، وتثير تساؤلات في الشارع الفلسطيني عن دورها وماهيّتها ومستقبلها، بينما يتّجه اليمين المتطرّف إلى السيطرة على مقاليد الحكم والمجتمع الإسرائيلي ويرى أنّ الفرصة مؤاتية لحسم الملفّ الفلسطيني بالكامل.
*كاتب فلسطيني