موضوعية المغرب (وتركيا).. مقابل اللغو الإيرانيّ..

مدة القراءة 7 د


تعيش إسرائيل راهناً، واحدة من أسوأ الأزمات السياسية والاجتماعية في تاريخها، نتيجة الانقسام العميق المعبَّر عنه بالاحتجاجات الجماهيرية غير المسبوقة ضدّ مشروع الإصلاح القضائي المقدَّم من حكومة بنيامين نتانياهو. فقد وصل الانقسام إلى داخل المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية مع تهديد عشرات آلاف العسكريين والطيّارين وضبّاط وعناصر أجهزة المخابرات، بتعليق الخدمة التطوّعية في الجيش الإسرائيلي، وهو ما دفع “معهد دراسات الأمن القومي”، الذي يعدّ أبرز مركز للبحوث الأمنيّة الإسرائيلية، إلى توصيف الوضع الحالي بأنّه “أشدّ أزمة” تواجهها البلاد في تاريخها، محذّراً من خطر “الانهيار الكامل لنظام الاحتياط”، وتعريض “معادلة الردع الإقليمية للخطر” وتقويض الدور التقليدي للجيش الإسرائيلي باعتباره “جيش الشعب”.
كما تتجمّع قوّة ضغط جماهيرية هائلة خلف خيار الإضراب العامّ، في الوقت الذي مضى فيه نتانياهو بقيادة أكثريّته النيابية الصغيرة إلى التصويت في “الكنيست” على بعض بنود خطّة التعديل، وأهمّها ما يُعرف بقانون “المعقوليّة”، الذي بات يمنح الائتلاف الحكومي ووزير العدل صلاحيّات واسعة في اختيار وتعيين القضاة، ويمنح رئيس الوزراء صلاحيّة مطلقة في تعيين الوزراء.

إيران وأزمة إسرائيل
ومع ذلك، فإنّ ردود الفعل المختلفة من جيران إسرائيل في الشرق الأوسط على الحاصل فيها، تكشف عن ديناميكيّات جيوسياسية مثيرة، يختلف بعضها جذريّاً عن البعض الآخر. على جري العادة، بدت ردود فعل طهران أكثر تجذّراً في السرديّات الأيديولوجية وخطاب العداء، كما عبّر عن ذلك تعليق لاذع للمتحدّث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بخصوص الأزمة الصحّية التي ألمّت بنتانياهو. قال كنعاني إنّ “الأزمة في قلب الكيان الصهيوني أعمق من الأزمة في قلب رئيس وزرائه”.

ردود الفعل المختلفة من جيران إسرائيل في الشرق الأوسط على الحاصل فيها، تكشف عن ديناميكيّات جيوسياسية مثيرة، يختلف بعضها جذريّاً عن البعض الآخر

صناعة السياسة في المغرب وتركيا
أمّا على المقلب الآخر، وفي ذروة الأزمة الراهنة، شهدت علاقات كلّ من المغرب وتركيا بإسرائيل تفاعلات دبلوماسية مهمّة، بدت محكومة بالمصالح الوطنية لهذه الدول بصرف النظر عن أيّ أولويّات أخرى.
تشير مثلاً الدعوة التي وجّهها العاهل المغربي محمد السادس إلى نتانياهو، بعد اعتراف إسرائيل بالسيادة المغربية على الصحراء، وعزمها فتح قنصلية في مدينة الداخلة، إلى عقل عربي وشرق أوسطيّ مختلف، لطالما انطلق من أولويّات المصلحة الوطنية للمغرب، ومصلحة سيادته ووحدة كيانه. لا يشعر المغرب بأيّ عِقد تجبره على تبنّي خطابات الرفض والشعبوية التي تتبنّاها إيران وحلفاؤها العرب في المنطقة. ولا يتحرّج من صناعة السياسة وفق ما يخدم المغرب والمغاربة أوّلاً. وفي هذا المجال يخوض المغرب معركة سياسية قاسية، بأعلى درجات الهدوء والرصانة. فبعد التوقيع على الاتّفاق الثلاثي الخاصّ بين المغرب وإسرائيل وأميركا، استمرّ شدّ الحبال بين الرباط وتل أبيب، إلى أن أعلن الديوان الملكي المغربي قبل أيام تلقّيه رسالة من نتانياهو، يعلن فيها اعتراف إسرائيل بسيادة المغرب على الصحراء المغربية، ويؤكّد أنّ موقف بلاده “سيتجسّد في كلّ أعمال ووثائق الحكومة الإسرائيلية ذات الصلة.”
على نحو مماثل يبدو أنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مدفوعاً أيضاً بالمصالح الموضوعية لبلاده، قرّر أن يتخلّى عن المزايدات الأيديولوجية، وأعلن أنّه سيلتقي مع نتانياهو، نهاية الشهر الجاري في أنقرة، قافزاً فوق ما يحدث داخل إسرائيل، والأهمّ، متجاهلاً التطوّرات العسكرية الأخيرة التي شهدها مخيّم جنين، وهي تطوّرات كانت لتكون في صلب خطابه السياسي الشعبوي، من سنوات قليلة فقط. بل إنّ إردوغان يطمح إلى أن يتوصّل إلى تفاهمات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وإلى اتفاق يسمح بتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، أي الغاز نفسه الذي يسبغ عليه الخطاب الأيديولوجي، صفة “الغاز الفلسطيني المنهوب”!.

السطو الإيرانيّ على القضيّة الفلسطينيّة
الإرث العقلانيّ في السياسة المغربية، والتحوّل التركي نحو شيء شبيه، لا سيّما في العلاقة مع إسرائيل، يفيدان بغلبة البراغماتية على السرديّات الأيديولوجية، وينطلقان من فهم واقعي للترابط بين مصالح الدول الاقتصادية والسياسية بدل الرهانات الخائبة على تغيير مسارات التاريخ والجغرافيا، لا سيّما في ما يتعلّق بنهائية وجود إسرائيل. وأحسب أنّ هذا الإرث، هو بوّابة الوصول إلى تسوية عادلة ومستحقّة للفلسطينيّين بدل المتاجرة بالعنوان الفلسطيني الذي دمّر القضية ومشروعيّتها وحضورها، ودمّر في طريقه عدداً من العواصم من بيروت إلى بغداد مروراً بدمشق ووصولاً إلى صنعاء. فعدا عن فشل قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، لا سيّما بعد وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات، شكّل السطو الإيراني على القضية الفلسطينية، السبب الأبرز لانهيار هذا المشروع، وصولاً إلى حال الضياع الراهنة. ولا يجدر أن يغيب عن البال الدور الذي لعبته إيران في إيصال نتانياهو إلى رئاسة الحكومة صيف عام 1996، بعد الاستثمار في موجة العمليات الانتحارية عبر حركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي منذ عام 1993، ردّاً على مشروع السلام، وأدّى هذا المسار إلى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وتهميش معسكر السلام وإسباغ المشروعية على معسكر التطرّف اليهودي، الشريك العمليّ لطهران ضدّ مسار السلام العربي الإسرائيلي. لم يُنتج هذا الخيار إلّا المزيد من المعاناة للفلسطينيّين وتمكين التيّارات الإسرائيلية التي تحلم بتصفية أيّ أفق للدولة الفلسطينية.

مجدّداً، تشير التفاعلات المختلفة، بين تلك الصادرة عن المغرب وتركيا، بالإضافة إلى الانفتاح السعودي المعلن على مبدأ السلام مع إسرائيل ولو بشروط ما تزال موضع تفاوض، وتلك المناقضة لها والصادرة عن إيران، تشير إلى تقدُّم الحسابات الوطنية للدول وحسابات مصالحها القومية أوّلاً. إنّ تقديم مصالح الدول الوطنية على أيّ عنوان آخر، في صناعة السياسة وإدارة التحالفات، هو إشعار مطمئن بأنّ العقلانية السياسية تتقدّم في الشرق الأوسط على حساب اللغو الأيديولوجي، والأهمّ على حساب اللغو الإيرانيّ الذي لطالما سمّم الوعي السياسي، لا سيّما في الدول العربية ولم يزل.
أمّا الإشارة الثانية، وأحسبها بالغة الدلالة، فهي أنّ ردود فعل، كالردود الإيرانية، تكشف في الواقع عن إفلاس الخطاب الشعبوي والأيديولوجي. فإذا كانت الحسابات أنّ إسرائيل مأزومة وآيلة إلى السقوط، وجيشها بات فاقداً لقدرات الردع والهجوم والدفاع، فماذا ينتظر المبشّرون بزوال إسرائيل، لضرب ضربتهم، و”إزالة الكيان من الوجود”؟ أليس الأجدر بميليشيا الحزب المرتبطة بإيران، أن تكون اليوم في موقع تنفيذ وعيدها بعبور الجليل، بدل العمل على تدريب وتسليح عناصر من مقاتلي جبهة البوليساريو التي تهدّد أمن المغرب؟

إقرأ أيضاً: قانون اليوم: الأقوياء فقط يقررون.. لا مكان للحقوق

في الواقع تشكّل الأزمة الداخلية في إسرائيل واحتقان العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، نافذة على التحوُّلات التي طرأت على السياسات والمواقف العربية والشرق أوسطية من موضوع العلاقة مع إسرائيل، وتفضح تبجّح إيران، التي لا تعدو مواقفها أن تكون أكثر من فلكلور أيديولوجيّ، من دون أيّ نيّة حقيقية للتصرّف عمليّاً بموجب الخطاب الذي تتبنّاه.
في المقابل تبشّر المرونة السياسية التي انطوت عليها مواقف المغرب وتركيا، بأنّنا في منطقة تتغيّر باستمرار وتتقدّم ولو بهدوء وتقطُّع نحو السلام والعقلانية السياسية وتقديم المصالح الوطنية على اللغو الأيديولوجي الذي بات غطاءً يُخفي العجز أكثر منه مقدّمةً للفعل.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…