لم يوقف الحزب حملاته ضدّ السعوديّة ودول الخليج لأسباب لبنانية محلّية أو لدوافع تتعلّق بمصالح البلد الاقتصادية أو غيرةً على مئات الآلاف من اللبنانيين العاملين في المملكة وبقيّة دول مجلس التعاون الخليجي، بل أوقف الحزب “القصف” بناء على توجيهات صادرة من طهران حملها مِن بين مَن حملها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، من ضمن القواعد التي يفرضها الاتفاق مع السعودية في بكين المبرم في 10 آذار الماضي.
إذا كان ما نورده من البديهيّات، فإنّ من البديهيّات أيضاً أنّ موقف الحزب من أيّ شاردة وواردة لبنانيّة محلّيّة، خصوصاً إذا كانت على علاقة باستحقاق دستوري أساسي بمستوى انتخاب رئيس للجمهورية، مرتبط بشكل مباشر بمزاج الحاكم في طهران ومصالحه في إيران والإقليم والعالم. وفق هذه المعادلة البسيطة وجب أن نفهم مواصفات الحزب للرئيس العتيد كما تمسُّكه بالمرشّح سليمان فرنجية أو احتمالات التخلّي عنه.
يدرك فرنجية نفسه هذه المسلّمة. سبق أن أعاد قرار الاستغناء عن خدماته واستبداله بميشال عون في انتخابات عام 2016 إلى الحزب وحساباته فقط. وحسابات الحزب حينها كما هي دائماً مرتبطة عضويّاً وولائيّاً بحسابات الوليّ الفقيه والحرس الثوري في إيران. وفيما يراقب ساسة البلد ما يمكن أن يتحوّل في مواقف العواصم الخمس التي اجتمع ممثّلون عنها في الدوحة أخيراً، فإنّ فرنجية، الذي يستأنس بأمزجه واشنطن وباريس والرياض والدوحة والقاهرة، يتأمّل بثبات ودقّة ومثابرة مواقف طهران وحدها.
أنهى اتفاق بكين السجال العلنيّ بين الرياض وطهران. برَّد في الشكل كثيراً من ملفّات النزاع. عادت الممثّليّات الدبلوماسية بين البلدين
العواصم الخمس تعرف ذلك
ليس فرنجية من يعرف ذلك وخبر ذلك وحده. العواصم الخمس تعرف ذلك أيضاً وتدرك أنّ مداولاتها المهمّة والمعقّدة والدؤوبة تجري على هامش الملعب لا في متنه، وإن كان لتطوّر المحادثات الثلاثية ثمّ الخماسية دور أساسيّ في إعداد الملعب للمباراة الحقيقية. وإذا ما كان الحزب لاعباً محليّاً أساسيّاً على رقعة الصراع، فإنّه يمثّل مصالح العاصمة السادسة الغائبة عن المباراة، والتي لا لعبة في لبنان من دونها حتى إشعار آخر.
أنهى اتفاق بكين السجال العلنيّ بين الرياض وطهران. برَّد في الشكل كثيراً من ملفّات النزاع. عادت الممثّليّات الدبلوماسية بين البلدين. وراج التخاطب الودّيّ نسبياً والداعي إلى الحوار والتعاون وتصفير المشاكل.
مع ذلك لم يُسجَّل إقفالٌ لأيّ ملفّ، ولا سيّما ملفّ اليمن، لا بل إنّ الجدل بشأن حقل الدرّة السعودي الكويتي مثال على احتمال فتح ملفّات جديدة. ولئن تتجنّب السعوديّة وإيران الاحتكاك في لبنان وتتدافع مواقف متكاملة بينهما بشأن “احترام حرّية اللبنانيين في اختيار رئيسهم”، غير أنّ تلك الواجهة لم تُخفِ خلافاً كبيراً (إذا لم نقُل حرباً) في هذا الصدد.
ترشيح فرنجية ثابت ومستقر
يبدو ترشيح فرنجية ثابتاً مستقرّاً ومستفيداً، للمفارقة، من غياب إيران الرسمي عن مداولات باريس والدوحة. كانت طهران حاضرة في المداولات التي جرت في العاصمة القطرية بعد “غزوة 7 أيار” 2008 وأنتجت ما عُرف بـ”اتفاق الدوحة”. لا بل إنّ رئيس الوزراء القطري آنذاك الشيخ حمد بن جاسم استدعى تدخُّل إيران للضغط على حلفائها للإفراج عن الاتفاق الشهير في 21 أيار من ذلك العام. وإذا ما تدخّلت ظلال طهران على سطور صفقة ذلك اليوم، فإنّ إيران تنتظر، وربّما بتدلّل، أن تستدعي الخماسية أو بعضها مباركة طهران لمخرَج يُنهي الشغور الرئاسي في لبنان.
فقدت إيران واجهة فرنسية كانت تسوِّق لصيغة حلّ إيرانية. نشط دبلوماسيّو باريس لترويج صفقة المقايضة الشهيرة بين فرنجية رئيساً للجمهورية وسلام (نواف أو تمّام) رئيساً للحكومة. أغلقت باريس الملفّ، أوّلاً، حين اضطرّت وزارة الخارجية الفرنسية إلى إعلان أن لا مرشّح لفرنسا في لبنان، وثانياً، حين سمعت كلاماً سعودياً واضحاً في هذا الصدد. قيل إنّ إضافة قطر إلى المداولات الإقليمية الدولية كان بسبب ما تملكه من علاقات متقدّمة مع إيران. قيل أيضاً إنّ الدوحة تنقل، بشكل ما، وجهة نظر إيران ورؤاها داخل لقاءات الخماسية. حتى إنّ بعض الهمهمات قالت إنّ قطر تطرح ضمّ إيران إلى الدول الخمس.
في لبنان مَن يلاحظ أنّ الرياض لا تضع فيتو على أيّ مرشّح، لكنّها توحي، وخصوصاً من خلال السفير وليد البخاري، بمواصفات الرئيس المناسب. بالمقابل فإنّ إصرار الحزب وحلفاء إيران على التمسّك بفرنجية مرشّحاً والدعوة إلى الحوار من أجل “إقناع الآخرين به” يعبّر تماماً عن تمسّك إيران بورقة امتلكتها، في كلّ مفاصل السنوات التي تلت انسحاب وصاية دمشق، ولا تجد مبرّراً أو اختلالاً في موازين القوى يحول دون الاستمرار في ذلك.
إقرأ أيضاً: لا فرج مع الحزب.. ولا “حزب” إن جاء الفرج
بينما تتمخّض جلبة ساسة البلد عن عجز واضح، وتتناغم مواقف “الثنائي الشيعي” فجأة على مهاجمة الجهود الخارجية، وتُسرِّب الخماسية مزاجاً ضبابياً عاجزاً عن الحسم، يوجد في طهران مَن ينتظر تواصلاً رسمياً يعترف لها بأن تكون الضلع السادس لسقف إقليمي دولي يقرّر في لحظة ما إعادة تكوين السلطة في لبنان. غير أنّ طهران لا تملك أرجحيّة كانت تملكها في أيار 2008، ولا مزاج إقليمياً دولياً يتيح لنادي الخمسة انضمام “الضلع السادس” إلى صفوفه. أمر يدركه الحزب ومرشّحه أيضاً.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@