أرشيف كوكب الأرض: في DNA الإنسان…

مدة القراءة 9 د


قريباً جداً ستتغيّر طرق تخزين المعلومات والبيانات والصور والفيديوهات، إذ لن نعود بحاجة إلى “يو إس بي” (USB) ولا إلى أقراص مدمجة ولا إلى أيّ حاملٍ للمعلومات يعتمد على الإلكترونيّات، بل إلى قارورة صغيرة نخزّن فيها كلّ بياناتنا.

بسبب تضاعف حجم البيانات الرقمية، فقد بات من الصعب على مراكز البيانات أن تستوعب الكمّ الهائل من الملفّات لتخزينها، إذ تُعتبر أنّها وصلت إلى حدودها القصوى، وهو ما دفع المختبرات البحثية والشركات الناشئة في العالم إلى البحث عن نظام تخزين للمعلومات يكون أكثر سعةً واستقراراً وحفاظاً على البيئة. هذا المكوّن الجديد هو الحمض النووي الصناعي.

أكثر من سبعين مليار جيغابايت (GB)، أو ما يعادل 64 زيتابايت (Zettabyte)، هو الحجم المقدّر للبيانات الرقمية المخزّنة في العالم اليوم، ومن المتوقّع أن يتضاعف هذا الرقم ثلاث مرّات بحلول عام 2025. هذه الزيادة في البيانات طبيعية نظراً للتحوّل الرقمي الحاصل عالمياً والذي يطال كلّ المجالات، بالإضافة إلى مستجدّات الذكاء الصناعي.

بسبب تضاعف حجم البيانات الرقمية، فقد بات من الصعب على مراكز البيانات أن تستوعب الكمّ الهائل من الملفّات لتخزينها، إذ تُعتبر أنّها وصلت إلى حدودها القصوى

تُخزَّن البيانات على شرائط ممغنطة في مراكز تخزين البيانات التي تخطّى عددها ثمانية ملايين مركز في العالم. وبسبب طبيعتها الفيزيائية، فإنّ هذه الشرائط هشّة وعمرها محدود ومشاكلها عديدة لأسبابٍ عدّة:

أوّلاً، سيؤدّي حجم المعلومات بحلول 2040 إلى مضاعفة مساحة مراكز البيانات لتغطّي 1 من ألف من سطح الأرض، أي ما يوازي دولة بمساحة 51,000 كلم مربّع، أي ما يعادل 5 مرّات مساحة لبنان.

ثانياً، تمثّل هذه المراكز من الناحية البيئية 2% من الاستهلاك العالمي للكهرباء، مع بصمة كربونية تتخطّى الانبعاثات الناتجة عن حركة الطيران المدني.

تطوّرت أدوات تخزين المعلومات عبر الزمن، ويتذكّرها كلّ شخص حسب فئته العمرية:

– فمَن هم فوق الستّين يتذكّرون البطاقات المثقّبة التي كانت الوسيلة التي نلقّن بها أوامر البرمجة للحاسوب ونخزّنها، ثمّ المايكروفيلم المعتمد في المكتبات للأرشيف.

– أمّا الستّينيون فيتذكّرون “كاسيت” التسجيل والأقراص 3.5 وأشرطة الـ”في إتش إس”.

– حاليّاً نستخدم الأقراص المدمجة والـ”يو إس بي” التي نحملها في جيوبنا لنضع عليها المعلومات.

هذا فيزيائياً وفردياً، أمّا افتراضياً، عندما تصبح الذاكرة الرقمية مليئة بالمعلومات حسب سعتها، نرسل المعلومات عبر الحوسبة في السحاب إلى خوادم مجّانية و/أو مدفوعة عند شركات معتمدة، وتشكّل هذه الخوادم ما يشبه “مزرعة البيانات”، ونطلبها من بعد عند الحاجة. أمّا المؤسّسات فتخزّن معلوماتها على خوادم ذات سعة ذاكرة ضخمة تتطلّب مئات الكيلومترات من المساحة لاستيعابها، بالإضافة إلى حاجتها إلى الطاقة وإلى تبريدها وتبريد المكان الموجودة فيه.

مع كثرة المعلومات والمتطلّبات الزائدة للأرشفة وللترحيل من وسيطٍ رقمي إلى وسيطٍ آخر يتناسب مع المتغيّرات التقنية والحواسب المحدّثة باستمرار، يُعمل حالياً في المختبرات على وضع استراتيجيات جديدة للتخزين والأرشفة تلبّي المتطلّبات وقادرة على تخطّي سلبيّات الإلكترون.

تُخزَّن البيانات على شرائط ممغنطة في مراكز تخزين البيانات التي تخطّى عددها ثمانية ملايين مركز في العالم. وبسبب طبيعتها الفيزيائية، فإنّ هذه الشرائط هشّة وعمرها محدود ومشاكلها عديدة

الحلّ في DNA الإنسان

يعتقد الباحثون في العالم أنّهم وجدوا ما يبحثون عنه من دون أن يكون مبتكَراً من الإنسان، بل هو موجود في خلاياه، ومعتَمد منذ أكثر من 4 مليارات سنة. إنّه الحمض النووي. فمن خلاله لن نعتمد كثيراً على الإلكترونات، بل سنضع كلّ ذلك في أنبوبٍ صغيرٍ يحتوي على القليل القليل من السائل.

لدى الحمض النووي العديد من المزايا التي يمكن من خلالها الاستجابة للمشاكل التي تطرحها مراكز البيانات. يوضح ستيفان لومير، المؤسّس المشارك في شركة “بايوميموري” (Biomemory) الناشئة المتخصّصة في كتابة وتخزين البيانات الرقمية في الحمض النووي والتي أُسّست عام 2021، ومدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا، أنّ “هذا الجُزَيء شديد الكثافة، بحيث يمكن لـ 1 غرام من الحمض النووي أن يحتوي على 450 مليون تيرابايت، وهو مستقرّ وطويل الأمد عند تخزينه في بيئة مؤاتية، ويمكن أن يتجاوز عمره الافتراضي 100,000 عام، وحين تصنيعه يمكن تخزينه من دون مدخلات للطاقة، وبالتالي من دون انبعاث للكربون”.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ما يقرب من 60% إلى 80% من البيانات المخزّنة في مراكز البيانات هي عبارة عن أرشيفات، مثل المستندات القانونية أو المعلومات العلمية أو حتى النسخ الاحتياطية. وهي، باختصار، بيانات لا تتمّ قراءتها إلا نادراً ويُحتفظ بها عند الحاجة. وبالتالي سيكون الحمض النووي مرشّحاً مثاليّاً لتخزين هذا النوع من البيانات التي تتطلّب القليل من عمليات التشفير وفكّ التشفير والقراءة.

تشفير الـ”دي إن إي”

الشيفرة الجينيّة “دي إن إي” (DNA) موجودة منذ بداية الخلق، وهي عبارة عن شيفرات تحتوي على كلّ المعلومات الجينيّة المنحوتة في جُزَيئات. تحتوي هذه الشيفرة على أربعة عناصر تمثَّل بأربعة أحرف هي “إي سي تي جي” (A C T G) التي تتّحد فيما بينها في الخليّة الحلزونية.

ما يحاول العلماء القيام به هو بناء خلايا صناعية تُشفَّر فيها المعلومات للتخزين ويعاد فكّ التشفير عند الحاجة إليها. فلنتخيّل أنّنا أخذنا صورة معيّنة على الهاتف، تُرسَل هذه الصورة إلى جهاز يقوم “بنحتها” وتشفيرها، ليس كما هو الحال بسلسلة من الأصفار والآحاد (0 و1) التي تمثّل ثنائياً المعلومات الرقمية الإلكترونية، بناءً على المكوّن الفيزيائي الذي لا يتقبّل إلّا حالتين، بل من خلال “حفر” هذه المعلومات (الصورة) في هذه الحلزونة بسلسلة من الأحرف الأربعة التي تمثّل الحمض النووي (الأحرف الأربعة A و T و C و G)، ثمّ نضع هذا التسلسل في أنبوب تمثّل فيه الصورة التي أخذناها. وبين التمثّل الثنائي والتمثّل الرباعي للبيانات، فإنّ سرعة المعالجة ستتضاعف أربع مرّات، وستكون سرعة المعالجة للمعلومات بالتوازي (parallel) على نحو ما تعمل خلايا الدماغ البشري، وليس بتسلسل تتابعي (sequential) كما هو الحال الآن.

تجري العملية على عدّة مراحل: ترميز الملفّ “الثنائيّ التمثيل” في “الرباعيّ التمثيل” وكتابة جُزيء الحمض النووي الذي يتوافق مع هذا التسلسل قبل تخزينه. ولقراءة الملفّ مرّة أخرى، يجري تمرير هذا الجُزيء من خلال جهاز التسلسل، من أجل إعادة تحويل الملفّ واستعادته.

يعتقد الباحثون في العالم أنّهم وجدوا ما يبحثون عنه من دون أن يكون مبتكَراً من الإنسان، بل هو موجود في خلاياه، ومعتَمد منذ أكثر من 4 مليارات سنة. إنّه الحمض النووي

على الرغم من أنّ تقنيّات قراءة الحمض النووي قد نضجت بالفعل، بفضل التقدّم في الطبّ الحديث، إلّا أنّ مرحلة الكتابة في الخليّة هي التي تركّز على جهود الباحثين. للقيام بذلك، يبحثون في عدّة طرق: كيميائية أو أنزيمية أو بيولوجية، ولكلٍّ منها قيودها الخاصة. الطريقة الأخيرة هي الطريقة التي قرّرت شركة “بايوميموري” القيام بها. يقول الباحث في الشركة: “تتمثّل رؤيتنا في استغلال إمكانات الحياة، التي طوّرت بالفعل تقنيّات لتخزين المعلومات في الحمض النووي، قراءته وكتابته وتصحيحه”، ويضيف أنّ هذا النهج مستوحى من الأحياء باستخدام البكتيريا التي ستمكّن على وجه الخصوص من الاستغناء عن المذيبات الملوّثة من التخليق الكيميائي.

إنّ الميزة التي تتمتّع بها هذه التقنيّات المقبلة هي أنّ لها قدرة واسعة على التخزين لا تضاهى بما هو سائد حاليّاً. ففي واحد ملم مكعّب (1 ملم3)، من الممكن تخزين كلّ الأرشيف الوطني والمكتبات والأرشيفات المتعدّدة والكتب والأفلام… ولو أردنا أن نخزّنها على أقراص مدمجة أو على خوادم سيكون حجمها كبيراً جداً يصل في علوّه من الأرض إلى السماء، وهذا أوّلاً. وثانياً، كما نعلم، فإنّ عمر الحمض النووي طويل جدّاً، إذ نجد أنّ علماء الآثار يستطيعون فكّ تشفير الحمض النووي لكائنات وُجدت قبل آلاف السنين وما يزال محفوراً.

التوجّه نحو التصنيع

بغضّ النظر عن النهج المتّبع، فإنّ التحدّي ما يزال كبيراً وتجب مواجهته من أجل تسويق هذا الحلّ، ومن المفترض تركيز الجهود على التصنيع. فمتانة النظام وسرعة العمليات المختلفة، كما قضايا الأتمتة والتصغير، تهدف بمجملها إلى خفض التكاليف. “نحن نعمل حالياً بسعر 1,000 دولار لكلّ ميغابايت، ومن الواضح أنّه ليس من المجدي اقتصادياً التخزين على نطاقٍ واسع”، يعترف مارك أنتونيني، الذي يتوقّع أنّ تطوير تطبيقات صناعية جديدة لوضع التخزين سيقلّل من التكاليف.

انطلاقاً من ذلك، فإنّ أنظمة الحمض النووي ستكون قادرة على المنافسة مع محرّكات الأقراص الصلبة من حيث الكفاية والسعة والسرعة والتكلفة، ومناسبة للتطبيق في مراكز البيانات بحلول عام 2030. وسيتمكّن هذا المنتج في النهاية من قراءة وكتابة ونسخ الحمض النووي بسرعة كبيرة: “يتمثّل أحد أهدافنا في تصغير كلّ شيء نقوم به في المختبر إلى مقياس بيكوليتر”، يشرح ستيفان لومير، الذي يأمل أن يكون المختبر قادراً على خفض التكاليف إلى دولار واحد لكلّ تيرابايت.

عالميّاً؟

على المستوى العالمي، ما يزال هذا النوع من التخزين المبتكر في بداياته، مع وجود عدد قليل من الشركات المتخصّصة في نطاقه الصناعي، ومنها على سبيل المثال شركة “تويست بيوسيانس” Twist Bioscience التي أُسّست سنة 2013 في سان فرانسيسكو وتقوم بتصنيع الحمض النووي الصناعي للعملاء في صناعة التكنولوجيا الحيوية.

إقرأ أيضاً: قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (3/3): الخليج… و”ثقافة العرب”

بالإضافة إلى “تويست”، توجد في الولايات المتحدة عدّة برامج واستثمارات تقوم بها شركات مثل مايكروسوفت، التي تعاونت مع Western Digital وTwist Bioscience لتأسيس تحالف تخزين بيانات الحمض النووي. وفي أوروبا يوجد مشروع OligoArchive، الذي يجمع العديد من المؤسّسات في مشروع مدّته أربع سنوات يهدف إلى تطوير حلول جديدة لضغط بيانات الحمض النووي وتشفيرها. في عام 2022 أُطلق في فرنسا MoleculArXiv، وهو برنامج بقيمة 20 مليون يورو ومدّته سبع سنوات، ويضمّ حوالي عشرين مختبراً بحثياً حول هذا الموضوع.

بدأ الصراع بين أوروبا والولايات المتحدة والصين على صناعة خلايا الحمض النووي الصناعي ومن سيسيطر عليها، كما هو الحال في كلّ ما يتعلّق بالتكنولوجيا. وسيستمرّ عدد اللاعبين في القطاع بالنموّ في السنوات المقبلة. فسوق التخزين ضخم والطلب عليه كبير، والعالم بحاجةٍ إلى مزيد من الشركات لتلبية هذه الاحتياجات. هذا هو النمط الجديد من التخزين الذي سيدخل حيّز الاستخدام قريباً، وسيثبت نفسه باعتباره أحد أفضل الحلول لزيادة عمر حامل المعلومات ولتقليل البصمة الكربونية الناتجة عن تخزين البيانات الرقمية.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…