القرار الأوروبي والنازحون: حكومات لبنان هي السبب

مدة القراءة 7 د


قبل أسبوعين صوّت الاتحاد الأوروبي على “قرار مشترك حول الوضع في لبنان”. القرار، بصيغته ومضمونه، شبيه بالقرارات الأمميّة. يبدأ باستعادة قرارات سابقة أوروبية وأمميّة تجاه لبنان. ثمّ يوصّف الواقع اللبنانيّ بفقرات متعدّدة استهلكت كلّ أحرف الأبجدية اللاتينية (باستثناء ستّة منها). بعدها ينتقل إلى التوصيات أو القرارات في 16 نقطة.

مضمون القرار

يبدأ القرار بالأزمة “الصحيّة والمالية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية” التي هي “غاية في الخطورة ومقلقة بعمق”. ثمّ ينتقل إلى مسألة انتخاب رئيس للجمهوريّة. فيذكر أنّ “الحزب وحركة أمل والتيار الوطني الحرّ يستعملون أساليب مناقضة للدستور لعرقلة التصويت في البرلمان” لانتخاب رئيس. ويتطرّق إلى رفض رئيس مجلس النواب نبيه برّي الدعوة إلى جلسات متتالية لانتخاب رئيس. وينتقد عدم إجراء الانتخابات البلدية (31 أيار 2023) وتصويت “الحزب وحركة أمل والتيار الوطنيّ الحرّ وكتل سياسيّة حليفة لهم” لتأجيلها. وفي مسألة انفجار المرفأ، “أكبر انفجار غير نوويّ في العالم”، المنسيّ لبنانياً ودولياً، تطرّق إلى العراقيل التي وُضعت أمام التحقيق الذي يجريه القاضي طارق البيطار (يذكره بالاسم). ويُعيد التذكير باغتيال العقيد السابق في الجمارك جوزف سكاف (2017) الذي حذّر من خطر النيترات، والمصوّر جو بجّاني (2020) الذي صوّر العنبر رقم 12، والناشط والناشر لقمان سليم (2021) الذي كشف عن علاقة الحزب والنظام السوري بالموادّ التي انفجرت.

قبل أسبوعين صوّت الاتحاد الأوروبي على “قرار مشترك حول الوضع في لبنان”. القرار، بصيغته ومضمونه، شبيه بالقرارات الأمميّة

فُتات مساعدات

أمّا في مسألة النزوح السوري، موضوع مقالنا، فيحدّد القرار أعدادهم بمليون ونصف مليون نازح. يُضاف إليهم “15,800 لاجئ من أصول إثيوبية وعراقية وسودانيّة… و207 آلاف لاجئ فلسطيني”. ويتطرّق إلى تبعات وجودهم “على الاقتصاد اللبناني التي زادت من حدّة الأزمة المتشعّبة التي تمرّ بها” البلاد.

حتى الآن، القرار جيّد. “الكمين” الأوروبي تكشفه الفقرة 13 المخصّصة للنازحين السوريين. ففيها يلقي الأوروبيون “المواعظ” بأنّ “عودتهم يجب أن تكون طوعية، وكريمة وأكيدة، ضمن إطار احترام المعايير الدوليّة”. ويظهرون قلقهم من “تدهور الخطاب ضدّ النازحين من قبل أحزاب لبنانيّة ووزراء لبنانيين…”، ويطالبون “لبنان بعدم طردهم، وعدم اتّخاذ تدابير عنصريّة (بحقّهم)، وعدم خلق الكراهية تجاههم”، ويتعهّدون بـ”استمرار تقديم الدعم الإنسانيّ للشعب اللبنانيّ وللنازحين مع رقابة صارمة” خوفاً من قرصنتها من قبل المنظومة الحاكمة الفاسدة، فيما هذا الدعم هو فُتات دعم.

لا يتطرّق القرار لا من قريب أو بعيد إلى ضرورة عودة النازحين إلى ديارهم، ولا إلى خطرهم على الديموغرافيا اللبنانيّة لا من حيث العدد فقط، إنما على تركيبة السلطة التي لها تأثير مباشر على جيوسياسة البلاد. ولا يدعو القرار النظام السوري إلى تسهيل عودتهم. ولا يدعو المجتمع الدوليّ والدول صاحبة النفوذ في سوريا، خاصّة روسيا وإيران، للضغط على النظام لعودة النازحين.

الفرنسيّون يتقاذفون المسؤوليّة

فور صدور القرار بدأ تقاذف الكرة في فرنسا، أكثر الدول الأوروبية اهتماماً بالشأن اللبنانيّ. فاتّهم النائب عن “التجمّع الوطنيّ” في فرنسا تياري مارياني “الحزب الشعبي الأوروبي” بخيانة لبنان. وردّ عليه النائب الفرنسيّ فرانسوا كزافييه بيلامي باتّهامه بالدجل وتحريف الوقائع.

التعامل الفرنسي مع ملفّ النازحين السوريين يذكّرني بتزكية فرنسا العلمانيّةِ الطائفيّةَ في لبنان، وبقول جورج كليمنصو، منذ أكثر من مئة عام، لوزير خارجيّته المعترض على تعامل فرنسا العلمانية مع البطريرك الياس الحويك: “العلمانية ليست منتجاً فرنسياً للتصدير”. في فرنسا تعمل الحكومة على تعديل قوانين الهجرة لـ”اختيار من نريد ورفض من لا نريد استقباله”، بحسب رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، بعدما بلغ عدد المهاجرين 8.7 ملايين نسمة (حوالي 12.8% من السكّان). وفي لبنان لا تأبه فرنسا لوجود نازحين سوريين يشكّل عددهم ثلث الشعب اللبنانيّ.

الانقسام اللبنانيّ و”الزجليّات” تساهم اليوم في بقاء النازحين السوريين كما كانت بالأمس سبباً في بقاء اللاجئين الفلسطينيين. وها هم يشاركون اللبنانيين رقصة الموت حول نعش لبنان

المطّلع على تاريخ التعامل الأوروبي مع ملفّ النازحين السوريين لم يفاجئه القرار. فهو أتى منسجماً مع سياسة الاتّحاد الأوروبي منذ بداية الأزمة في 2012. ويعلّلها الأوروبيون بمبادئ حقوق الإنسان واتفاقية الأمم المتحدة المتعلّقة باللاجئين (1951) والبروتوكول الصادر عنها (1967). وقد دعا القرار لبنان إلى الانضمام إليهما. وحده الفاتيكان اليوم لديه قلق عميق من تداعيات النزوح السوريّ على لبنان واستقراره وتركيبته الديمغرافيّة، على الرغم من أنّه في البداية دعا اللبنانيين إلى استقبالهم من منطلقات إنسانيّة بحتة.

الخطر في اللاموقف اللبنانيّ

إلا أنّ المشكلة ليست في القرار. فالاتحاد الأوروبي ليس صاحب الحلّ والربط في ملفّات الشرق الأوسط، وتحديداً في موضوع الصراع في سوريا وتداعياته، ومن ضمنها مسألة النازحين. المشكلة الكبرى هي في الموقف اللبناني، أو بالأحرى لاموقف الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة والمواقف الشعبويّة للشعوب والقبائل اللبنانيّة، وهي على الشكل الآتي:

1- لنبدأ بالحزب، الأقوى في لبنان. فهو حارب السوريين وحاصرهم في القصير وحمص وحلب ومدن وقرى أخرى على طول الحدود اللبنانيّة التي تركها مفتوحة ليتيح لهم الانتقال إلى الداخل اللبنانيّ، ولإفساح المجال أمام تهريب الموادّ من لبنان إلى الداخل السوريّ الذي زاد في تفاقم الأزمة الحاليّة.

2- الحكومة الميقاتيّة الثانية (2011-2013) أعلنت مبدأ النأي بالنفس. لكن لم تطبّقه إلا في ملفّ النازحين السوريين. تركتهم يدخلون بالآلاف من دون أيّ خطّة لاستقبالهم. وتكمل الحكومة الميقاتية الثالثة السياسة نفسها. فقد زار وزير الخارجية فيها منذ فترة الفاتيكان وشارك في مؤتمر حول النازحين في بروكسل من دون أن يحمل خطّة واضحة لحلّ هذه الأزمة الوجوديّة للبنان.

3- تعاني الأطراف السياسيّة من عدم وعي خطورة هذه الأزمة، منذ بدايتها. على الرغم من أنّ لبنان مرّ بتجربة مماثلة مع اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا أحد أسباب، وكذلك وقود، الحرب الأهلية منذ العام 1975، ويشكّلون خطراً أمنيّاً يومياً على البلاد وخطراً مقبلاً على التركيبة الطائفية التي لها تأثير مباشر على تركيبة السلطة السياسيّة في البلاد، مع العلم أنّه لم يظهر النازحون أي إشارة لتبنيهم خيار مذهبي لا قولاً ولا فعلاً.

4- تعاطي الأطراف اللبنانيّة بشعبوية مع هذا الملفّ، وفي مقدَّمها التيار الوطنيّ الحرّ الذي يُتحفنا بالخطابات في وقت كانت له كتل وزارية وازنة في الحكومات المتعاقبة منذ بدء النزوح، وأكبر كتلة برلمانيّة، ورئيس للجمهورية لستّ سنوات، ولم يفعل شيئاً. على العكس من ذلك، غطّى حروب حليفه في سوريا التي ساهمت في زيادة نزوح السوريين إلى لبنان (كما ذكرنا)، والتقى مؤسّسه بشار الأسد منذ أسابيع ولم يطالبه بتسهيل عودة النازحين، وزاره قبلاً ولم يطالبه بالكشف عن مصير المفقودين في السجون السوريّة، وبعضهم من أتباعه.

إقرأ أيضاً: الهرب من الواقع… إلى البرلمان الأوروبيّ!

في ردّها على القرار الأوروبي استعادت الأطراف اللبنانيّة المزايدات الشعبويّة:

– عاد فريق الممانعة وأزلامه إلى “نغمة” عدم تواصل الحكومات اللبنانيّة مع الحكومة السوريّة الذي هو السبب في عدم عودة النازحين السوريين إلى بلادهم.

– والحزب الذي نقل عناصره وعتاده وأسلحته إلى سوريا، وأسّس فيها ميليشيات، وبنى فيها ثكنات ومخازن ذخيرة… هو نفسه يقود “حفلة الزجل” هذه. لا يكلّف نفسه عناء الطلب من بشار الأسد تسهيل عودتهم. فهو قانونيّ ساعة يشاء، وفوق الدستور والقوانين عندما تدعو مصلحة إيران العليا.

الانقسام اللبنانيّ و”الزجليّات” تساهم اليوم في بقاء النازحين السوريين كما كانت بالأمس سبباً في بقاء اللاجئين الفلسطينيين. وها هم يشاركون اللبنانيين رقصة الموت حول نعش لبنان.

مواضيع ذات صلة

حلب تعكس عمق مأزق إيران والحزب… والنّظام السّوريّ

يرفض الحزب أخذ العلم بما حلّ به وبلبنان. يصرّ على أنّه حقّق انتصاراً على إسرائيل متجاهلاً كلّ ما له علاقة بالواقع. يشير هذا التجاهل للواقع…

إيران في سوريا: العسل المرّ

منطق “شرعيّة” وجود مجموعات الحزب والميليشيات الإيرانية على الجبهات في سوريا يقول إنّ النظام في دمشق هو من طلب. وإنّ هذه القوى هي التي استجابت….

7 عسكريين إسرائيليين يجيبون: لماذا لم “نقضِ” على الحزب؟

خاضت إسرائيل الحرب ضدّ الحزب في لبنان تحت عنوان سياسي كبير: “إضعاف إيران يبدأ بإضعاف أذرعها”. وكان أوّل أهدافها السياسية المباشرة تفتيت “وحدة الساحات”، وعزل…

سوريا: أخطاء الأسد… أعادت المتطرّفين

أخطأ الرئيس بشار الأسد عندما تصرّف وكأنّه المنتصر في الحرب قبل أن تضع أوزارها ويستعيد السيطرة على كامل الأراضي السورية. اتّكأ على إيران وروسيا أكثر…