بلغ عدد الموقوفين نحو 600. لو لم تتدارك السلطات والأجهزة الأمر، لسقط لبنان برمّته.
أو ربّما قُضي على الشعب اللبناني بكامله.
مدّعي عامّ التمييز تحرّك شخصيّاً. استُحدثت وحدة أمنيّة خاصّة للحرب عليهم.
بعضهم اعترف أنّهم يجمعون الجماجم من القبور.
وفي مخبأ أحدهم ضُبطت “زجاجة فيها أفعى ميتة، ومجسّم لمدفن، وصور ورموز شيطانية، وجمجمة بقرة غُرزت في قرنيها الدبابيس، وجمجمة بشرية، ورأس شيطاني”.
مناطق عمليّاتهم الإجرامية شملت كلّ الأراضي اللبنانية، بحسب بيانات الأجهزة الموثوقة جدّاً جدّاً. من القنيطر في عكّار إلى طرابلس. ومن جبيل إلى برج البراجنة. ومن مار مخايل إلى الصرفند. كأنّهم وحّدوا لبنان بمؤامرتهم الشيطانية.
كان ذلك قبل 20 سنة بالتمام. وكان الخطر يومها اسمه عبَدة الشيطان. ولولا “رجالات النظام السوري في لبنان وأبطاله الميامين”، لما اكتشفناهم، ولما نجا لبنان وشعبه من الخطر العظيم.
اليوم كأنّ هناك نظاماً آخر. له أيضاً رجاله. ومعه أيضاً أعداؤه وأخطاره، والنضال دائماً من أجل مصلحة لبنان واللبنانيين.
********************************
لم تكن القصّة جديدة ولا إبداعية. ولا أصالة إطلاقاً في اختراعها. إنّها قصّة “راجح” الرحبانيّة منذ “بيّاع الخواتم” عام 1964. هي نفسها حرفيّاً. حتى إنّه لو تقدّم ورثة العبقريَّين الكبيرَين يومها، بدعوى سرقة مُلكية أدبيّة، لربحوها حتماً بوجه شلمسطيّي ذاك الزمن.
سرعان ما تبيّن أنّ لبنان كلّه بات مخنوقاً بنظام الوصاية. وليد جنبلاط كان أوّل المتجاوبين. نبيه برّي صعد إلى بكركي ومعه تلك الوريقة الصغيرة في جيبه. رفيق الحريري كانت أصلاً “صوفته حمراء”
طبعاً سقطت الفزّاعة – الأداة بسقوط الاحتلال وعملائه. ولم يعد لها ذكر أو أثر. لكن بقي منها أمران اثنان، من الأساسي فهمهما، لمعرفة تطوّرات اليوم والغد:
– أوّلاً، ما هو سرّ التركيبة الإقليمية القادرة على احتلال لبنان بلا مقاومة؟
– ثانياً، ما هو سرّ المنظومة الداخلية القادرة على تغطية “تعاونها” مع الاحتلال من دون ممانعة من الناس؟
لكشف السرّ الأوّل يكفي السؤال: متى خرجت إلى العلن قصّة عبَدة الشيطان؟
كان نظام وصاية الاحتلال قد قام منذ 1990. وكان قد أرسى دعائمه في المؤسّسات الدستورية والأمنيّة والاقتصادية والديمغرافية كافّة.
وكان قد ارتاح إلى معادلة تفاهم وتعايش مع الأميركي والإسرائيلي: تبادل خدمات وحفظ الخطوط الحمر وهوامش باقية محدّدة للّعب.
إلى أن جاءت سنة 2000. انسحب الإسرائيلي لأكثر من سبب. أبرزها ضربات المقاومة الموجعة. فتبدّل المشهد الاستراتيجي.
بدأ التغيير بكلام ذاك البطريرك الثابت القائد العنيد العميق، الذي لا يغيّر حرفاً ولا تنطلي عليه حيلة أو مناورة.
أعلنها في 20 أيلول 2000 بجملة واحدة: “بعدما خرجت إسرائيل، أفلَم يحِن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً باتفاق الطائف؟”.
فكرّت السُبحة. وسرعان ما تبيّن أنّ لبنان كلّه بات مخنوقاً بنظام الوصاية. وليد جنبلاط كان أوّل المتجاوبين. نبيه برّي صعد إلى بكركي ومعه تلك الوريقة الصغيرة في جيبه. رفيق الحريري كانت أصلاً “صوفته حمراء”.
وبسرعة بدأت تتدحرج كرة السياديّين. قام لقاء قرنة شهوان إطاراً جامعاً مقاوماً. لاقاه الجميع. حتى الحزب بادر إلى حواره من اللقلوق حتى مونترو في سويسرا. السيّد محمد حسين فضل الله استقبله وكاشفه ونصحه بكيف “نختصر الوقت معاً”… زار سيّد بكركي الجبل. وشاءت السماء أن تعطي السياديّين فرصتين في انتخابين فرعيَّين خلال سنتين، في المتن وبعبدا – عاليه.
ولم تتوقّف المصادفات السيّئة لنظام الوصاية. تفجّر 11 أيلول. ثمّ جاءت حرب العراق المَفصِل يوم قرّر الأسد الإبن خرق الميثاق التأسيسي لاحتلاله لبنان وفق الاتفاق الأميركي المعقود مع والده منذ حرب الخليج الأولى عامَي 1990 – 1991. فصارت اللعبة مفتوحة على كلّ الاحتمالات.
أصدر نظام الوصاية فرمانه بضبط الوضع اللبناني. حكومة حرب في نيسان 2003. وقمع كلّ صوت نشاز. لكن كيف؟
هنا يبرز السؤال الثاني عن سرّ الطبقة العميلة لأيّ وصاية. كيف تقوم؟ وإلى ماذا تستند في عمالتها وقمعها لشعبها، مع تجنّب وقوعها في ثورة ضدّها؟
قبل ذلك المنعطف، كان أزلام الوصاية قد جرّبوا أسلوبين للقمع الجماعي: تهمة السفارات لجمعيّات حقوق الإنسان. وتهمة العمالة لاسرائيل. في المحاولة الأولى اخترعوا مثلاً أنّ وائل خير، الإنساني حتى العظم، يمثّل أكبر خطر على “الشعب الواحد في البلدين”. في الثانية مع 7 آب 2001، اكتشف جلاوزة الوصاية أنّ نديم لطيف وتوفيق هندي مثلاً، كانا على وشك تنفيذ اجتياح صهيوني جديد لكلّ لبنان.
في المرّتين فشلت المحاولتان الستالينيّتان. لذلك كان لا بدّ من اختراع جديد. فجأة ظهرت “عبادة الشيطان”.
أهميّة الاختراع الجديد أنّه يربط النظام بسلطة أعلى من البشر، فيصير أزلامه مدافعين عن قيمة إلهية.
هكذا يُضرب أكثر من حجر: هلع عظيم من الخطر المكتشَف. تقسيم الناس قبائل وفق مذاهبهم. والأهمّ تكريس ثلاثية ماسيّة: إله – سماء – موت. بمواجهة ثلاثية الناس المقهورين المناضلين لحرّياتهم ولقمة خبزهم. أو ثلاثية: إنسان – أرض – حياة.
لا يصبح الاحتلال وعملاؤه طغاة أو طغمة استبداد وحسب، بل ممثّلي الله على الأرض. ويصبحون مكلّفين بتهيئة شروط وجهوزيّة عبورنا منها إلى السماء. وبالتالي يصير الموت، بأيّ حال أو شكل أو وسيلة، أفضل لنا من هذه الحياة البائسة في أرض الدموع.
ذعر وهلع وتخويف وإرهاب. مترافقة مع صورة أنّ هذا المسؤول أو ذاك، لم يعد وزيراً أو رئيساً أو أمنيّاً. صار يجسّد وكيل الدفاع عن قيم الله على الأرض. وصار الممثّل الحصري لمفاهيم السماء على الأرض. وصار، بعمالته وفساده وفجوره وسماجته، الناطق باسم كلّ الآلهة معاً.
ينسى المسحوقون احتلالهم. وينسون طبقة عملائهم. وينسون أنفسهم وأرضهم وحياتهم، ويستسلمون لشلمسطيّي الآلهة والسماوات والموت الآمن الأبدي الرحيم. والأهمّ أنّهم يختلفون فيما بينهم. ويتوزّعون وينقسمون ويتقاتلون. وينتصر المحتلّ وعميله.
إقرأ أيضاً: مافيا إيطاليّة في بيروت: من يحميها؟
بصيغة أبسط، لا تتكرّس معادلة تقوم على أنّ “الدين أفيون الشعوب”، بل على أنّ “تجّار الأديان والآلهة طاعون الشعوب وأكثر وأخطر من أيّ طاعون”.
هل هذا ما يحصل اليوم؟ ولماذا؟
لا أحد يملك الجواب الكامل. لكنّ التزامن في افتعال ظواهر محفّزة للهذيان الجماعي، من حظر فيلم هنا إلى نبش مؤامرة “سكتش” كوميدي هناك، إلى اكتشاف جريمة “بوست” هنالك، إلى معارك أخلاقية لِمن بينهم وبين الأخلاق أضعاف مسافة ما بين الأرض والسماء… كلّها مؤشّرات مقلقة. أو مطمئنة.
كيف؟ لأنّ في ختام استذكار المرحلة الماضية ثمّة واقعة باقية. ألا وهي أنّ نظام وصاية الاحتلال لم يعِش أكثر من سنتين بعد اختراع عملائه فزّاعة عبَدة الشيطان.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@