الغرب يستكمل تطويق روسيا: ماذا سيفعل بوتين؟

مدة القراءة 8 د


شكّلت رمزية المكان الذي انعقدت فيه قمّة الحلف الأطلسي الأخيرة في العاصمة الليتوانية فيلنيوس رسالة قويّة لموسكو. إذ يبدو أنّ التحالف الغربي الذي غادر تدريجياً مربّع الخوف من التهديدات الروسية، انتقل إلى مستوى من الدعم العسكري لأوكرانيا يؤدّي إلى إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي وإجباره على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية، أو في أفضل الحالات تعديل ميزان القوى لجلب الرئيس فلاديمير بوتين إلى طاولة المفاوضات.

لكنّ أهمّ القرارات التي فاجأت سيّد الكرملين، كانت الموافقة التي أعطاها رجب طيب إردوغان على انضمام السويد إلى الناتو. هذا الواقع الجديد وضع روسيا أمام أكبر التحدّيات التي ستواجهها في هذه المرحلة، وذلك تحت ضغط التداعيات الجيوسياسية الناجمة عن القيمة الجيوستراتيجية التي تمثّلها السويد وأهمّيتها في الصراع الدائر في شرق أوروبا وشمالها.

المواقف التي أطلقها الكرملين وبعض القيادات الروسية المحسوبة على بوتين أمثال ديمتري ميدفيديف الذي اعتبر أنّ “العالم يقترب من حرب عالمية ثالثة”، عكست هذه التحدّيات، فهل ثمّة شعور في موسكو بأنّ تطويق روسيا أصبح حقيقة؟ وما هي السيناريوهات المحتملة إزاء هذا الواقع الجديد؟

يبدو أنّ التحالف الغربي الذي غادر تدريجياً مربّع الخوف من التهديدات الروسية، انتقل إلى مستوى من الدعم العسكري لأوكرانيا يؤدّي إلى إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي وإجباره على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية

تفادي المواجهة المباشرة مع روسيا 

تراوح سقف قرارات قمّة الحلف الأطلسي الأخيرة بين ما صدر عن الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أعلن عدم جاهزيّة حلف الناتو وأوكرانيا لانضمام الأخيرة إلى الحلف، وبين الرسائل التي وجّهها ينس ستولتنبرغ، الأمين العام للناتو، في مقالته التي نشرتها مجلّة “فورين أفيرز” قبل يوم من انعقاد القمّة: “حلف شمال الأطلسي متّحد، والعدوان الاستبدادي لن يؤتي ثماره، وما نفعله، أو لا نفعله، سيحدّد الآن العالم الذي نعيش فيه لأجيال، وإذا توقّفت روسيا عن القتال، فسيكون هناك سلام، وإذا توقّفت أوكرانيا عن القتال، فستتوقّف عن الوجود كأمّة”.

هذه الرسائل تُرجمت بقرارات القمّة على المستويات التالية: 

1- استمرار الدعم العسكري والسياسي لأوكرانيا لتحرير أراضيها من الاحتلال الروسي. 

2- عدم الانجرار إلى صراع مباشر بين الحلف الأطلسي والجيش الروسي. 

3- الموقف من انضمام أوكرانيا إلى الناتو تأرجح بين فتح الباب وإقفاله في الوقت نفسه، تفادياً لاستفزاز بوتين وعدم وضعه أمام خيارات تطيح بما بقي لديه من عقلانية حالت حتى الآن دون اندلاع مواجهة مباشرة مع الناتو أو استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في مواجهة الجيش الأوكراني.

4-انضمام السويد إلى الناتو، بعد أكثر من سنة من التجاذبات السياسية والمفاوضات على الأثمان بين الحلف والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي عرف كيف يجعل الغرب يدفع لتركيا ثمن المزايا الجيوستراتيجية التي سيحصل عليها الحلف من انضمام السويد إليه، والتي ستكون بمنزلة أهمية انضمام اليونان وتركيا إلى الحلف في عام 1952. والأرجح أنّ المقابل سيكون الموافقة على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

ميزان قوى جديد

التدقيق في خريطة توسّع الناتو بعد انضمام فنلندا والسويد، بدءاً من التمركز الاستراتيجي في اليونان، ووصولاً إلى بحر البلطيق، يقدّم صورة واضحة عن لعنة الجغرافيا التي حلّت على موسكو في هذا التطوّر ذي الأبعاد الجيوستراتيجية.

هناك شبه إجماع بين المحلّلين السياسيين على أنّ المكاسب التي حقّقها الناتو من خلال انضمام هاتين الدولتين ستغيّر ميزان القوى القائم.

التدقيق في خريطة توسّع الناتو بعد انضمام فنلندا والسويد، بدءاً من التمركز الاستراتيجي في اليونان، ووصولاً إلى بحر البلطيق، يقدّم صورة واضحة عن لعنة الجغرافيا التي حلّت على موسكو في هذا التطوّر ذي الأبعاد الجيوستراتيجية

وتُتَرجم هذه المكاسب بالتالي:

أوّلاً من خلال الإمكانات العسكرية والماليّة لهاتين الدولتين، إذ تمتلكان قوّات مسلّحة حديثة ومجهّزة تجهيزاً جيّداً.

وثانياً بالقيمة الجيوسياسية للجغرافيا التي تمثّلها كلّ منهما، وخاصة السويد التي تُعتبر جغرافيتها ذات قيمة جيوستراتيجية عالية بالنسبة للصراع الدائر حالياً. إذ تمتلك السويد قوات بحريّة وجويّة مهمّة، وتنفق حالياً 1.3 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي على الدفاع (حوالي 8.4 مليارات دولار)، وقد أعلنت الحكومة السويدية أنّها تعتزم إنفاق 2% من الناتج المحلّي على الدفاع بحلول عام 2028.

من جهتها، تنفق فنلندا على الدفاع 2 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي (حوالي 6 مليارات دولار)، في حين أنّ خطط الإنفاق لدى الحكومة قد تتجاوز 2 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة. أما الاتفاقية التي وُقّعت مع الولايات المتحدة الأميركية في شباط 2022، فسوف تُمَكّن فنلندا من تحديث أسطولها الجوّي من خلال شراء 64 طائرة مقاتلة من طراز F-35، تبلغ قيمتها حوالي 8.4 مليارات يورو.

في مجال المزايا الجيوسياسية لانخراط السويد وفنلندا في حلف الناتو، اعتبر لوكاس هاسيبروك (ضابط يعمل في سياسة الأمن والدفاع في البوندستاغ الألماني) في مقال نُشر بتاريخ 5/4/2023 أنّ انضمام هاتين الدولتين إلى حلف شمالي الأطلسي سيؤدّي إلى ملء فجوة قائمة في التخطيط الدفاعي لحلف شمال الأطلسي في أراضيه الشرقية، وسيقوّي الدفاع عن إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بشكل كبير. إذ ستتحمّل فنلندا والسويد من الآن فصاعداً المسؤولية الرئيسية عن الدفاع (المشترك) في بحر البلطيق، الذي سيصبح بنظر هاسيبروك بحكم الأمر الواقع، “البحر الداخلي للتحالف”. وأضاف أنّ انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي يسلب روسيا إمكانية الاستيلاء المفاجئ على أراضي البلطيق، وأنّ انضمام فنلندا سيضيف حوالي 1,300 كيلومتر إلى الحدود الروسية مع التحالف الدفاعي عبر المحيط الأطلسي، أي أكثر من ضعف الحدود الحالية.

أهمّ القرارات التي فاجأت سيّد الكرملين، كانت الموافقة التي أعطاها رجب طيب إردوغان على انضمام السويد إلى الناتو. هذا الواقع الجديد وضع روسيا أمام أكبر التحدّيات التي ستواجهها في هذه المرحلة

التطويق الجغرافي الكامل

في المقابل، أشار ألبين أرونسون في مقال نُشر عام 2015 في “المجلس الأطلسي” إلى أهميّة القيمة الجيوستراتيجية لليونان والسويد في الصراع الحالي بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. ورأى أنّ “الجغرافيا هي المفتاح لفهم سبب لعب كلا البلدين الآن أدواراً أكثر مركزية في الصراع الحالي بين روسيا وحلف شمال الأطلسي”. واعتبر أنّ اليونان تشكّل “مرساة الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي (جنباً إلى جنب مع تركيا)” وتحمل مفتاح قاعدة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في خليج سودا في جزيرة كريت، التي تُعتبر عنصراً حاسماً في حلف شمال الأطلسي والنفوذ العسكري للولايات المتحدة في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط الكبير.

إذاً ماذا بقي لتطويق روسيا بالكامل؟ وهل ننتظر مشهداً مشابهاً في البحر الأسود؟

راهن بوتين على أنّ احتلال أوكرانيا وإعادتها إلى المجال الحيوي الروسي سيفتح الباب أمامه للتفاوض على إعادة هيكلة الأمن الأوروبي وإبعاد الناتو عن دول شرق أوروبا والانتقال إلى عالم متعدّد الأقطاب.

بالطبع كلّ هذه الرهانات باءت بالفشل، وحلف شمالي الأطلسي أصبح على حدود روسيا الغربية وحليفتها بيلاروسيا، وسيتحوّل الجيش الأوكراني في السنوات المقبلة في مجال التسليح والتدريب والعقيدة القتالية إلى جيش أطلسي.

في ضوء هذه الحقائق التي تشكّلت بعد سبعة عشر شهراً على الحرب، من المستبعد رسم أيّ سيناريو يتنبّأ بانتصار روسيا وفرض إرادتها على أوكرانيا، بل على العكس تتأرجح السيناريوهات المتوقّعة لنهاية غزو أوكرانيا بين سيناريو العودة إلى طاولة المفاوضات وسيناريو هزيمة روسيا.

إقرأ أيضاً: هزيمة روسيا تبشّر بقيام نظام عالميّ جديد

لعودة إلى المسار الدبلوماسي تتطلّب إمّا ميزان قوى ميدانياً جديداً، أو توصُّل بوتين وفولوديمير زيلينسكي ومن خلفه التحالف الغربي إلى قناعة بأنّ هذه الحرب لا يمكن أن ينتصر فيها أيّ طرف. لكنّ الوضع ليس على هذا النحو الآن. سيناريو هزيمة روسيا ستكون له تداعيات كبيرة على إعادة تشكيل العالم. وإذا كان من المستحيل التفكير في انتصارها فإنّ التفكير في هزيمتها يعدّ ضرباً من الجنون.

بالطبع فإنّ الرئيس الصيني قادر على منع هزيمة روسيا، لكنّه غير قادر على جعلها تنتصر في الحرب. فهل يتمكّن شي جينبينغ من إقناع بوتين بإنهاء الحرب، وإذا نجح فهل تتجاوب إدارة بايدن التي تخطّط لإضعاف روسيا؟ 

*أستاذ الدراسات العليا في كليّة الحقوق والعلوم السياسية والإدارية بالجامعة اللبنانية

مواضيع ذات صلة

سيادة الرئيس.. نتمنى أن نصدقك

“لو كنتُ رئيساً للولايات المتحدة، لما اندلعت حرب أوكرانيا وغزة” هذا صدر البيت.. أما عجزه، فسوف يوقف الفوضى في الشرق الأوسط، وسيمنع اندلاع حرب عالمية…

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….