تزامن دعم بيان الدوحة الأخير والجامع لاتفاق الطائف، مع تأييد الثنائية الشيعية لاتفاق الطائف، من خلال مجموعة من التصاريح على لسان أقطابها وقياديّيها. فقد أعلن الرئيس نبيه برّي تمسّكه باتفاق الطائف ونهائية الكيان اللبناني وطناً مستقلّاً لجميع أبنائه ومكوّناته. لحقته التصاريح المتعدّدة والمتسلسلة لقياديّي الحزب التي شدّدت على تمسّكها باتفاق الطائف والصيغة اللبنانية على الرغم من عدم إشارته في وثيقته الأولى إلى نهائية الكيان اللبناني بشكل مباشر، وعلى الرغم من انخراطه في النظام اللبناني وإيمانه بدولة ولاية الفقيه كما يشير في في وثيقته الثانية. تفتح هذه الإشارات والدعوات والتأييدات الشهيّة على إشكالية مهمّة: أيّ طائف يريدون؟
هذا بالإضافة إلى تساؤلات متنوّعة، من أبرزها:
– هل لبنان هو كيان نهائي أو مؤقّت؟
– هل يشكّل اللبنانيون على أرضه كلّ أهله؟ أو هل هم جزء من جماعته؟
حين وقع الاجتياح العراقي للكويت في شهر آب من عام 1990، تحوّل الدور السوري من كونه مساعداً في إيجاد حلّ لهذه الأزمة اللبنانية خلال المرحلة الانتقالية، إلى طرف مخوّل إدارة هذا الملفّ بشكل دائم، بفعل الظروف الإقليمية والدولية. توقّف عبر هذا السلوك تطبيق اتفاق الطائف بشكل جذري وعكسي مشهود. فانتقل لبنان من حرب الشوارع الأهلية العبثية إلى حرب السلطة الشخصانية، والإدارات الاحتكارية العابقة برائحة الفساد والمحسوبة على قياس الحصص. دخل النزاع إلى الدستور. استعرت الخلافات على تفسير بنوده وموادّه، بفعل الإشراك الفوضوي لكلّ الميليشيات في السلطة. لم يُطبَّق الطائف أبداً، بل الاتفاق الثلاثي*، وتمّ ذلك من خلال استحداث نماذج الفدرالية الإدارية والحدود الوهمية، التي لا علاقة للدستور بها. لم يُحترم الطائف، فانتقلنا حينها من حالة اللادولة إلى اللامؤسّسات.
المطلوب هو تطبيق اتفاق الطائف بطريقة صحيحة، وليس عبر تفسيره باطنياً وتغييره والالتفاف عليه
الطائف هو الضمانة
يشكّل التمسّك باتفاق الطائف الضمانة الوحيدة لاستمرارية لبنان وبقائه وديمومته، فلا بديل عنه سوى الفوضى والمجهول. لم ولن تمرّ كلّ خطط التحايل والنيل منه، مع محاولات ضرب نموذج الوطن الرسالة وعروبة لبنان .
لذا لا يكون دعم اتفاق الطائف بالثأر من صيغة 1943 والميثاق الوطني. ولا تكون في فرض تغييرات في التوازنات القائمة والمؤسّسة بما يتلاءم مع وجهات النظر المتغوّلة الآنيّة.
لا تصحّ المحافظة على اتفاق الطائف باتّباع سياسة الأمر الواقع المتسلبطة في استعمال عناصر القوّة الآمرة البعيدة عن السياسة الديمقراطية، خدمة لتحقيق سياستهم وتمكين غلبتهم في السلطة:
– سياسياً عبر فرض ممارساتهم غير الدستورية باسم التوافق والميثاقية العرجاء.
– عسكرياً عبر عدم احترام مبدأ حصريّة السلاح بيد الدولة والجيش اللبناني.
– تنفيذياً عبر مصادرة قرار الحرب والسلم من الدولة والحكومة.
لا يتمّ تحصين اتفاق الطائف عبر الاستيلاء على العناصر الماليّة في الدولة، وفي خلق النظام المالي والاقتصادي الخاصّ، أو عبر تكريس المصرف المركزي الموازي من خلال مؤسّسات القرض الحسن.
اعتبرت الثنائية الشيعية نفسها خارج تسوية 1943 (السنّيّة – المارونية). جعلت من نفسها غير معنيّة بعمق هذا الميثاق الوطني. لكن جرى بعد توقيع الطائف توزيع بعض الصلاحيّات التي كانت محصورة حينها بيد رئيس الجمهورية على مجلس الوزراء مجتمعاً. فارتضى المكوّن الشيعي ذلك على مضض. سكت طوال مرحلة الترويكا في زمن الوجود السوري مع تربّعه على عرش البرلمان إلى أن حان وقت الانتفاضة، فانتفض بحجّة التوازنات والأحجام على نظام الطائف غير المطبّق والمستباح أصلاً، وانقضّ على السلطة بعد الخروج السوري.
بدأ مشوار تمرّد المكوّن الشيعي على هذا النموذج مع حليفه الوطني المسيحي، وشريكه في اتفاق مار مخايل، الطرف الناقم على صيغة الطائف (رئيس الجمهورية الأسبق ميشال عون) والساعي إلى إعادة أمجاد الجمهورية الأولى. وما يزال الثنائي يهدف، بغضّ النظر عن التصريحات، إلى تكريس لعبة ومفهوم الثلاثيّات التي تضرب دستور الطائف، والتي بدأت عملياً من خلال تطبيق الاتفاق الثلاثي في عام 1985، واستمرّت مع الترويكا.
شكّلت تسوية الدوحة في عام 2008 للثنائي الشيعي الجزء الأوّل من الانتصار على الميثاق الوطني، وأوّل خطوة على درب تكريس المثالثة. نجح في الدوحة بالوصول إلى الثلث الضامن وتفعيل مبدأ الأقلّية المعرقِلة السلبيّة، إضافة إلى مشاركته في الحكم، وانتزاع مبدأ التوقيع التنفيذي الثالث. أضحى الثنائي في السلطة والمعارضة في آن. يعمل بجهد من أجل تحويل الدوحة من اتفاق مرحلة غير دائم إلى عُرف دائم بحجّة المصلحة العامّة والاستقرار. وكان يُفترض أن يُستعمل مرّة واحدة، إلّا أنّه نجح في تثبيته بفعل ضغط قوى الأمر الواقع. يحاول النيل من صيغة المناصفة 1943 لتكريس ما يسمّى المثالثة، بحجّة أنّه غير موجود في الاتفاق، في حين أنّه اتفاق غير مكتوب يجمع بين جناحَي لبنان بالمناصفة بين المسلم والمسيحي.
لا تكون حماية الطائف عبر تكريس المثالثة والتوقيع الثالث، وهو الحجّة الظاهرية للاستيلاء على وزارة المالية. يتمسّك الثنائي اليوم بوزارة المالية
لا تكون حماية الطائف عبر تكريس المثالثة والتوقيع الثالث، وهو الحجّة الظاهرية للاستيلاء على وزارة المالية. يتمسّك الثنائي اليوم بوزارة المالية، فلا مجال لأيّ تمويل في الدولة مهما كان ضئيلاً، على الرغم من حصوله على ما يريده من المصرف المركزي على امتداد كلّ هذه السنوات.
تسعى هذه الثنائية اليوم إلى التمسّك بالقرار المالي والمصرفي، وقد نجحت في ذلك. يتشدّدون في إعادة هيكلة النظام المصرفي ما لم يُخلق توازن ثلاثي حتى داخل المؤسّسات المصرفية.
تهدف الحركيّات إلى قضم أجزاء من صلاحيّات حاكم المصرف المركزي وتشتيتها وعدم حصرها بمركز واحد مستقبلاً، مع إمكانية تعديل القوانين المالية وقانون النقد والتسليف الذي يخضع له المصرف المركزي. وهذا ما تعكسه طريقة التعامل مع القوانين الإصلاحية المطروحة حالياً، بدءاً من الكابيتال كونترول وخطوات التعافي الاقتصادي والشفاء المالي، إلى مسيرة التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
لا تتحقّق المحافظة على الطائف بإقفال أبواب المجلس النيابي أمام الاستحقاق الرئاسي. يحتاج الطائف إلى تفعيل وتنفيذ حقيقي لكلّ موادّه وبنوده القانونية، وخصوصاً ما يتعلّق بالانتخابات الرئاسية، التي لا يدعو الدستور إلى إجراء حوار في شأنها، وإنّما يدعو إلى عقد جلسات انتخابية على التوالي، لتحقيق هذا الاستحقاق وانتخاب رئيس.
لا يوجد مع الطائف:
– أيّ صيغة تتعارض وتتنافى مع منطق المناصفة، ووحدة الصيغة والجغرافية الوطنية، سواء طُرحت المثالثة والفدراليات والتجزئات والتقسيمات. وسقف الحلول هي اللامركزية الإدارية.
– لا ينصّ الطائف على التوقيع الثالث، وإنّما على توقيع الدولة الواحدة، وهو توقيع الجمهورية.
– لا جدوى من التفكير والعبث بالحوارات الشاملة قبل انتخاب الرئيس، أو حتى في إعادة استذكار المؤتمرات من سان كلو إلى الدوحة.
– لا يذكر الطائف الثلث الضامن المعرقِل، وإنّما يدعو إلى تطبيق النظام الديمقراطي حيث الحكم للأكثرية والمعارضة للأقلّية.
إقرأ أيضاً: بيان الدوحة يصحّح ارتكابات اتفاق الدوحة (1/2)
إذاً المطلوب هو تطبيق اتفاق الطائف بطريقة صحيحة، وليس عبر تفسيره باطنياً وتغييره والالتفاف عليه. يجب تنفيذه بأسلوب مجرّد وطني ومؤسّساتي يرتكز على الميثاق الوطني المعتمِد في الأصل على السيادة والاستقلالية، ورفض الحماية الأجنبية أيّاً كانت ورفض الاندماج. فأيّ طائف يريده الثنائي؟
* الاتفاق الثلاثي: هو اتفاق تمّ التوقيع عليه إبّان الحرب اللبنانية في 28 كانون الاول 1985 بين كل من الحزب الاشتراكي وحركة أمل والقوات اللبنانية، وترجمت العديد من بنوده ومواده خلال مرحلة الطائف، بقوى الأمر الواقع والتسليم بواقعية الظرف المحلي وتقاطعه الإقليمي والدولي حينها خاصة ناحية منح سوريا نفوذاً قوياً على الساحة المحلية اللبنانية .