حين تبخّرت المراثي لم تجفّ الدموع

مدة القراءة 5 د


كان فوزي كريم (1945 ــ 2019) أصغر الموقّعين على البيان الشعري الذي نُشر في العدد الأوّل من مجلّة شعر في العام 1969. في الوقت نفسه كان قد عُرف بحلاوة صوته وهو يغنّي قصائده في ساعات متأخّرة من الليل، ومنها “يا حسين مردان كيف تركت الباب مفتوحا؟”. تلك القصيدة كتبها في رثاء الشاعر حسين مردان الذي توفّي عام 1972 (ولد عام 1927)، وهو الذي عُرف بحماسته لقصيدة النثر بعدما كان قد حُوكم بسبب كتابه الشعري التقليدي “قصائد عارية” عام 1950.
يقول كريم في مرثيّته: “هل تريد اسمه؟/ اسمه في الهويّة حسين مردان/ واسمه في الشارع حسين مردان/ واسمه في المقاهي الإله/ واسمه حين يعتزل الناس آه/ يا حسين مردان/ كيف تركت الباب مفتوحاً/ والليل لم يبدأ/ وكان السرّ مفضوحاً”.
منذ دولة أور الثالثة والعراقيون يكتبون المراثي. كان فوزي رشيد، وهو عالم آثار، يؤكّد لي أنّ العراق إنّما سُمّي بأرض السواد لكثرة العمائم السود التي وضعها السومريون على رؤوسهم حزناً على اختفاء آخر ملوكهم.
منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة والعراقيون يتعثّرون بحزنهم الدفين. وحين كتب شاعرهم محمد مهدي الجواهري قصيدته التي يرثي بها أخاه جعفر فإنّه بدأها بالتهديد: “أتعلم أم أنت لا تعلمُ/ بأنّ جراح الضحايا فمُ”. كان جعفر قد سقط قتيلاً على جسر الشهداء عام 1948 أثناء الاحتجاجات على معاهدة بورت سموث البريطانية العراقية. وجد الجواهري في مناسبة شخصية فرصة لتأكيد صفته وارثاً لخزانة النفائس التي يتوارثها العراقيون جيلاً بعد جيل.

أما آن لذلك الحزن أن ينتهي؟
“يقولون غنّي بفرح وأنا الهموم غناي/ بغيمة زرعوني ومشو وعزو عليا الماي”. كان ذلك جواب المغنّي قحطان العطار على أمر رئاسي قضى بالكفّ عن الغناء الحزين.
كيف يمكن أن نتوقّف عن النواح؟

منذ دولة أور الثالثة والعراقيون يكتبون المراثي. كان فوزي رشيد، وهو عالم آثار، يؤكّد لي أنّ العراق إنّما سُمّي بأرض السواد لكثرة العمائم السود التي وضعها السومريون على رؤوسهم حزناً على اختفاء آخر ملوكهم

ذلك ما ينزع عنّا أعزّ صفاتنا وأكثرها قدرة على جذب الآخرين إلينا. لقد دهشت حين ذهبت إلى دمشق عام 2010 ولاحظت أنّ هناك مَن يعتبر أغنية “اعزاز” للعراقي ياس خضر حدثاً أسطورياً. العراقي الجيّد هو البكاء الجيّد. قال لي شاعر مقيم في بريطانيا منذ أربعين سنة بعد زيارته للعراق: “أهلنا ما زالوا على طيبتهم، فهم يبكون في كلّ مناسبة”. شعبنا طيّب لأنّه يبكي بسرعة. وهو ما يعني أنّه لو توقّف ذلك الشعب عن البكاء فإنّه سيغادر طيبته. ألم يكن ذلك خيانة بشرية للطبيعة المترفة التي تميّزت بيسر رخائها في العراق؟ بلد بنهرين عظيمين وأراض خصبة وثروات هي أشبه بالذهب تحت الأرض وشعب تحت وسادة كلّ فرد منه عشرات القصائد وأمّهات لهنّ القدرة على اختصار تجارب كونية في حكايات متوتّرة مستوحاة من تجاربهنّ الشخصية لا يمكن أن يكون مشروعاً لحزن أبدي.
أما آن لذلك الحزن أن ينتهي؟
لقد التبس الأمر على العراقيين البسطاء حين صار الحزن جزءاً من المشروع الديني الذي فُرض عليهم بعد الاحتلال. ولكن هل هذا هو العراق الشاعريّ؟ لم يكتب صاحب الشاهر، وهو من كربلاء، سوى كتاب شعري واحد هو “أيّها الوطن الشاعري”. مات صغيراً أثناء حرب الثمانينيات.       

ذاكرة الأعمى من حرير
علّمني صاحب الشاهر حبّ كتاب “قوت الأرض” لأندريه جيد، فصرت أصطحب دانيال، وهو بطل ذلك الكتاب، إلى كلّ مكان أذهب إليه. لا أتذكّر كم عدد النسخ التي اشتريتها من ذلك الكتاب الذي أحنّ إلى طبعته الأولى التي تركتها في بغداد. وعلى الرغم من أنّني اقتنيت كتباً كثيرة في الثلاثين سنة الأخيرة، وهي عمر غربتي، غير أنّ حنيني إلى مكتبتي التي فقدتها في بغداد لا يزال ينبض في قلبي. هناك كتب لم أقرأها. كان الرهان على الزمن خاسراً. هي فكرة حزينة علّمتني تجربتي في الحياة ألّا أسمح لها بأن تتسلّل إلى حياتي وتخرّبها. صحيح أنّني فقدت رائحة الرازقي وطعم الريحان وأعمدة شارع الرشيد وشارع النهر وكنيسة أمّ الأحزان وسينما روكسي واللقاء ببناي جار الله وباص رقم 4 وجسر السنك والمدرسة المستنصرية وجامع الحيدرخانه والقشلة ومقهى البرلمان وباجة الحاتي ومطعم تاجريان وأسواق حسو إخوان، غير أنّي في المقابل صرت أمشي في شوارع لندن وباريس وأمستردام ونيويورك وتونس مغمض العينين. ولكنّ للأعمى ذاكرته. تلك الذاكرة هي أشبه بسجّادة من حرير مدبوغة خيوطها بالمراثي. “ما لا يُنسى”، أبدأ بتلك العبارة وأضحك. لم تكن المسافة بين سينما غرناطة وأختها الحمراء سوى أمتار وبين الأخيرة وأختها الرصافي سوى أمتار، وأمّا سينما الخيام فإنّها تقع بعد شارع الجمهورية ولا يفصلها عن سينما روكسي سوى أمتار قليلة. كان خيال بغداد كلّه هناك.

إقرأ أيضاً: أميركا وإيران: “عدوّان” يتبادلان الخدمات في العراق

بغداد مبنيّة بتمر
لا يتوقّع غازي العبادي، وهو قاصّ عراقي، أنّ أحداً سيتذكّره بعد موته. كذلك موفق خضر وعادل عبد الجبار ومحمد عبد المجيد. ما أيسر أن تكون الذاكرة ثقب. ذاكرة من غير حواسّ. ترسّبت العذابات في القاع وغطّى البخار زجاج النوافذ. تسرّب الكثيرون من غير أن يُستعادوا كما لو أنّهم لم يمرّوا. لا يزال موسى كريدي يطلق جمله الساخرة الغاصّة بالألم. ذهبنا وفداً، أنا وزاهر الجيزاني ورعد عبد القادر إلى بيت الشاعر خالد علي مصطفى في السفينة بالأعظمية لعقد هدنة مع جيل الستينيات بعد الضجّة التي تسبّب بها عام 1984 لقاء نشرته مجلة الوطن العربي، كان أبطاله سلام كاظم وخزعل الماجدي وزاهر الجيزاني وأنا. وجدناه يقرأ واحدة من مسرحيات شكسبير باللغة الإنكليزية. كعادته كان غاضباً، غير أنّ ضحكاتنا خفّفت من غضبه. بعدها نجح الشاعر الفلسطيني في وساطته فهدأ هجوم الصحافة علينا ونجونا من الشبهات. خالد علي مصطفى الذي كان طرفاً في البيان الشعري هو الآخر لم يعد أحد يتذكّره. تُرى أين ذهبت المراثي؟ حتى المراثي تبخّرت. هل جفّ النبع أم اكتسب حبر العاطفة لوناً مخاتلاً؟ للملّا عبود الكرخي بيت شعري شهير لطالما ردّده العراقيون “بغداد مبنيّة بتمر/ شلع واُكل خستاوي”.   

مواضيع ذات صلة

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…

السّعوديّة تفتح أبوابها لحركة ترجمة تاريخيّة

من الرياض افتتحت وزارة الثقافة السعودية “المرصد العربي للترجمة” في 3 أيلول الجاري باب التقدّم لمنح الدراسات والأبحاث في مجال الترجمة في حلقته الثالثة. وتعتبر…