مصر: أثمان الخروج من عنق الزجاجة الماليّ

مدة القراءة 6 د


بكّرت مصر موعد الانتخابات الرئاسية ثلاثة أشهر بالمقارنة مع الدورة السابقة قبل ستّ سنوات، وكانت تلك إشارةً إلى أنّ ما ينتظر البلاد بعد الاستحقاق الانتخابي أكبر وأهمّ من الاستحقاق نفسه.
الأسئلة في الشارع المصري كلّها تدور حول اليوم التالي للانتخابات: كيف سيواجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في ولايته الجديدة، التحدّي الماليّ الأكثر دقّة منذ أن وصل إلى كرسي الرئاسة؟

ماذا عن اليوم التالي؟
الحديث هنا عن الاستحقاقات الثقيلة لمدفوعات الديون الخارجية التي تستحقّ في 2024، والتي تتجاوز 42 مليار دولار، شاملة أصول القروض والسندات ودفعات الفوائد، من ضمنها استحقاقات سندات بالعملات الأجنبية بقيمة 29.5 مليار دولار تقريباً (بالدولار وعملات أخرى)، ونحو 4.9 مليارات دولار من القرض السابق لصندوق النقد الدولي.
لكنّ قبل ذلك ما يلمسه الناس في معاشهم اليومي هو التضخّم الذي يقارب 35%، والفجوة المتزايدة في سعر صرف الجنيه بين سعر رسمي يقارب 31 جنيهاً للدولار، وسعر آخر في السوق السوداء يقترب من 50 جنيهاً.
لا تختلف توقّعات الخبراء عن بديهة الناس في الشارع بأنّ إصلاح سعر الصرف سيكون على رأس أجندة ما بعد الانتخابات. وتتّجه الأنظار إلى اجتماع لجنة السياسة النقدية في 21 الجاري، أي بعد أسبوع واحد من إعلان نتائج الانتخابات. وثمّة تكهّنات كثيرة بأن يكون على طاولتها قرار بخفض كبير لسعر الصرف الرسمي، لإغلاق الفجوة مع السوق السوداء.

لا تختلف توقّعات الخبراء عن بديهة الناس في الشارع بأنّ إصلاح سعر الصرف سيكون على رأس أجندة ما بعد الانتخابات. وتتّجه الأنظار إلى اجتماع لجنة السياسة النقدية في 21 الجاري

كان هذا واحداً من ملفّات عدّة عقّدت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وأوقفت صرف الدفعة الثانية من قرض الثلاثة مليارات دولار الذي وافق عليه الصندوق أواخر السنة الماضية. لكنّ الأجواء تغيّرت بين القاهرة وإدارة الصندوق في الأيام الأخيرة، حيث أعلنت المديرة العامة لصندوق النقد كريستالينا جورجييفا “ترجيحها” رفع قيمة قرض مصر من ثلاثة إلى خمسة مليارات دولار. وتزامن ذلك مع ورود إشارات إلى استعداد الاتحاد الأوروبي لتسريع برنامجه الاستثماري في مصر، المقدّر بنحو عشرة مليارات دولار.
يتردّد أنّ اندلاع الحرب في غزة كان واحداً من أسباب ذلك التغيير. فالبنوك العالمية تتحدّث في دوائرها الخاصة عن إدراك دوليّ للحاجة إلى مصر واستقرارها الماليّ والاقتصادي في منطقة متفجّرة. إذ إنّها محور التفاوض لتبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس”، والمنفذ الوحيد لإدخال المساعدات الإنسانية وإجلاء الجرحى، ومحور البحث في الترتيبات الأمنيّة، والمعبر الضروري لترتيب أيّ واقع سياسي جديد في الأراضي الفلسطينية.
انعكس هذا الإدراك على تسعير السندات المصرية في أسواق رأس المال، إذ انخفض الهامش بينها وبين سندات الخزينة الأميركية إلى ما دون عشر نقاط مئوية للمرّة الأولى منذ الصيف الماضي. وهذا الحاجز النفسي مهمّ لأنّه يعني في أسواق المال أنّ المستثمرين لم يعودوا يتوقّعون تعثّراً وشيكاً في سداد الديون.

الوجه السياسيّ للتحدّي الماليّ
لكنّ مقاربة القاهرة للملفّ الماليّ أكبر من مجرد إدارة انطباعات المتداولين في أسواق السندات. فالتحدّي له وجه سياسي وآخر يتعلّق بموقع الأمّة المصرية ومشروع نهضتها الاقتصادية على المدى البعيد.
في الوجه الأوّل، لا شكّ أنّ القاهرة تبقى متوجّسة من ربط أيّة مساعدات أو قروض ميسّرة بشروط سياسية، ولذلك كرّرت رسائلها المباشرة برفض مشروع تهجير أهل غزة إلى سيناء، تحت أيّ عنوان.
وفي الوجه الثاني، لا يريد السيسي لعنق الزجاجة أن يوقف زخم “المشروعات القومية”، من العاصمة الجديدة التي تصل تكلفتها إلى 58 مليار دولار، إلى المدن الجديدة في العلمين وسواها، إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة في قطاعات الكهرباء والنقل والاتصالات وسواها، وقبلها قناة السويس الجديدة التي اكتملت في ولايته الرئاسية الأولى.

تحدّيات واجهها السيسي
لم تكن السنوات الأولى سهلة، على الرغم من الزخم الذي أتى به السيسي، والدعم المالي السخيّ من دول الخليج. فإطلاق المشاريع الضخمة كان موازياً للحاجة إلى إحلال الاستقرار السياسي وإنهاء الوضع الأمني المتفلّت في سيناء وإعادة بناء موقع مصر الإقليمي والدولي. يروي رئيس تنفيذي في شركة عالمية كيف أنّ الدبّابات كانت تحيط بموقع مشروعه لحمايته من الهجمات الإرهابية.
على مشارف العقد الثاني له في الحكم، صار لدى السيسي عاصمة جديدة جاهزة لاستقبال الشركات والسكّان والمستثمرين، واكتملت مشاريع الطرقات والمدن السكنية والوجهات السياحية الجديدة في الساحل الشمالي، لكنّ الاختناق المالي يلقي بظلّ ثقيل على كلّ تلك الإنجازات. فمدفوعات فوائد الديون تبتلع سنوياً ما يقارب 45% من إيرادات الدولة، وجدول الاستحقاقات سيظلّ ضاغطاً حتى عام 2026، ما لم تحدث إعادة جدولة واسعة النطاق.
يعزو كثيرون هذا المأزق إلى الإفراط في الاقتراض، لكنّ الإنصاف يقتضي الإشارة إلى الرياح المعاكسة التي هبّت في السنوات الماضية بأسوأ ما يكون حظّ المبحرين. بدأ الأمر بجائحة كورونا، التي أوقفت تدفّق العملة الصعبة من السياحة، وأدّت إلى انكماش حادّ للنشاط الاقتصادي، ثمّ أتت الحرب في أوكرانيا فأدّت إلى ارتفاع حادّ لفاتورة استيراد السلع. وتزامن ذلك مع دورة ارتفاع الفوائد عالمياً وموجة خروج الأموال من الأسواق الناشئة، ومنها مصر التي خرج منها نحو 22 مليار دولار خلال أسابيع قليلة بين شباط ونيسان من العام الماضي.

إقرأ أيضاً: عن رواية “حماس” الغائبة والمغيّبة: أين نجدها أصلاً؟

فوق مشاكل الدَين، ما زالت الاستثمارات الأجنبية تنمو ببطء، ربّما لاصطدامها بأدوات البيروقراطية التقليدية، فيما يضغط صندوق النقد للتسريع في برنامج بيع أصول الدولة وتقليص دور الجيش ومؤسّساته في النشاط الاقتصادي.
باتت القناعة راسخة في الأسواق بأنّ مصر “أكبر من أن تسقط”. وتلك عبارة ليست عاطفية، بل تشير إلى النظرة الواقعية إلى مآل الوضع الإقليمي وحسابات اللاعبين الدوليين. لكنّ الأسابيع المقبلة ستوضح الأثمان والتوازنات التي ستقوم على أساسها ورشة إعادة ترتيب الوضع المالي والاقتصادي في دولة المئة وخمسة ملايين نسمة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…