خريف الدبلوماسيّة الفرنسيّة أمْ الماكرونيّة؟

مدة القراءة 9 د


لطالما سعت فرنسا إلى التمايز عن أميركا من خلال انتهاج سياسة خارجية متوازنة، ولا سيّما في الشرق الأوسط، بُغية الحفاظ على الحضور والتأثير في منطقة ملتهبة دائماً. بيد أنّ الدبلوماسية الفرنسية تعاني في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، وخاصة في ولايته الثانية، من اختزالها بشخص الرئيس ومزاجه، وتهميش بدأت آثاره تظهر في أكثر من منعطف سياسي.

أحدث هذه المنعطفات هي حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، حيث خرجت الاعتراضات من أروقة “الكي دورسيه” إلى الصحف الفرنسية، مع مذكّرة الاحتجاج الموقّعة من 10 سفراء فرنسيّين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والموجّهة إلى “الإليزيه”. فعل التسريب بحدّ ذاته يعكس مدى تبرّم المجتمع البيروقراطي الدبلوماسي من ماكرون، ويطرح للنقاش العلني مدى تأثير مواقفه على موقع فرنسا وسمعتها على الساحة الدولية.

لطالما سعت فرنسا إلى التمايز عن أميركا من خلال انتهاج سياسة خارجية متوازنة، ولا سيّما في الشرق الأوسط، بُغية الحفاظ على الحضور والتأثير في منطقة ملتهبة دائماً

يصرّح ويبرّر ويتراجع

تنقل صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية على لسان أحد الدبلوماسيّين الذين اطّلعوا على المذكّرة قوله: “تؤكّد المذكّرة فقدان فرنسا مصداقيتها ونفوذها، وترسم صورة سيّئة لبلدنا في العالم العربي”. ثمّ تلمّح بشكل دبلوماسي إلى أنّ “السبب في كلّ هذا المواقف التي اتّخذها رئيس الجمهورية”.

أداء ماكرون منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي اتّسم بالتذبذب الشديد. خلال 3 أسابيع فقط، انتقل الرئيس الفرنسي من الدعم المطلق لإسرائيل، والدعوة في 24 تشرين الأول إلى “تشكيل تحالف إقليمي دولي لمكافحة حماس”، على نسق التحالف الدولي لمحاربة داعش، إلى تنظيم باريس “المؤتمر الإنساني الدولي من أجل المدنيّين في غزة” في 9 تشرين الثاني، الذي عابه ضعف الحضور في دلالة على مدى فقدان فرنسا لمصداقيتها وتأثيرها، وصولاً إلى إدانته استهداف إسرائيل للمدنيين في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية “BBC” في 10 تشرين الثاني: “نشاطر إسرائيل وجعها، لكن لا يوجد مبرّر أو شرعية لقصف المدنيين وقتل الأطفال والنساء، ولذا نحضّ إسرائيل على التوقّف”. كلام ماكرون أثار حفيظة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو الذي ردّ بعد سويعات قليلة. ثمّ عاد في اليوم التالي ووصف تصريحات الرئيس الفرنسي بأنّها “خاطئة لجهة الوقائع الموقف الأخلاقي”.

تغريدة نتانياهو ردّاً على تصريح ماكرون لهيئة الإذاعة البريطانية BBC

 

اضطرّ ماكرون إلى تغيير موقفه مرّة جديدة. وأجرى اتصالاً بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لإيضاح موقفه. وأكّد أنّه “يدعم بشكل لا لبس فيه حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وحربها ضدّ حماس”. وبذلك، فإنّ ماكرون يصرّح، ثمّ يتراجع ويبرّر، ثمّ يتراجع مجدّداً ويبرّر التبرير السابق وهكذا، بما يعقّد من مهمّة الإليزيه في توضيح تصريحاته بشكل متوالٍ. وهو أمر غير مسبوق في السياسة الخارجية، ولا سيما لدولة ذات عراقة في العمل الدبلوماسي مثل فرنسا.

يعترف المبعوث الرئاسي الفرنسي إلى الشرق الأوسط، السفير برتران بيزانسنو، بأنّ “اعتبار فرنسا أنّها موافقة على سياسات إسرائيل هو الذي دفعها للمطالبة بوقف إطلاق النار (طالبت بهدنة إنسانية)، وعقد مؤتمر إنساني. وهو ما لم يفهمه الإسرائيليون”. وعلى الرغم من كلّ محاولات بيزانسنو لتجميل مواقف ماكرون خلال مقابلة مع قناة “القاهرة الإخبارية” في 27 تشرين الثاني، إلّا أنّه أقرّ بـ”وجود العديد من التساؤلات حول السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط”.

 

نعم ولا في الوقت نفسه

مواقف ماكرون وتحوّلاتها جلبت له انتقادات النخب والبيروقراطية الفرنسية. أوّلاً بسبب التخلّي عن المبدأ الذي أرساه الزعيم التاريخي شارل ديغول بشأن “دعم حلّ الدولتين” و”التوازن الإيجابي بين طرفَي النزاع”. وهو النهج الذي سار عليه أسلاف ماكرون. ثانياً بسبب عدم وجود استراتيجية ثابتة للسياسة الخارجية الفرنسية في عهده.

قال جيلبير روجيه، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي الأسبق، ورئيس “مجموعة فلسطين – فرنسا” في البرلمان الفرنسي إنّ ماكرون “يقول لك لا ونعم في الوقت نفسه، وهو دائماً متردّد بين اليمين واليسار. وهذا الأمر أفقده مصداقيته”. وأكّد روجيه أنّ “الصراع القائم حالياً كشف عن عدم ثقة الدول العربية بفرنسا”، واصفاً سياسة ماكرون بـ”التوازن غير المستقرّ”، أو بمعنى آخر التوازن السلبي.

ليس تراجع وهج وتأثير الدبلوماسية الفرنسية وليد عملية “طوفان الأقصى” والحرب التي اندلعت بعدها، بقدر ما هو مسار متدحرج منذ سنوات. في عهده خسرت بلاده أكبر صفقة عسكرية في تاريخها عام 2021، حينما عدلت أستراليا عن صفقة الغوّاصات الفرنسية التي قُدّرت بنحو 89 مليار دولار. ردّ ماكرون بسحب سفراء باريس في عواصم حلف “أوكوس” الثلاث: أميركا وبريطانيا وأستراليا، ثمّ عاد وتراجع عن الخطوة كعادته. أمّا في لبنان، فقد غرقت دبلوماسية ماكرون في مستنقع السياسات الفئوية والمصلحية الضيّقة، وفشلت في إنتاج حلّ سياسي مستدام خلال 4 سنوات.

في ورقة بحثيّة نشرها “مركز الجزيرة للدراسات” منذ أيّام قليلة، يفنّد زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس، الأسباب التي أدّت إلى التبدّل في السلوك السياسي الأوروبي تجاه المنطقة، وبينها “انتقال آليّات اتّخاذ القرار من وزارات الخارجية إلى رؤساء الدول ومستشاريهم. ففي فرنسا، يبدو الرئيس ومحيطه أصحاب القرار بعيداً أحياناً عن المؤسّسة الدبلوماسية”.

وهذا إذا كان مألوفاً في الحالة الأميركيّة، إلّا أنّه في الحالة الأوروبيّة، الفرنسية خاصّة، يبدو منحى آخذاً في التزايد منذ سنوات، وهو يعني خروج القرار من مسارات تغذّيها خبرات الدبلوماسيّين والباحثين المعنيّين، ودقّتهم في انتقاء المفردات والمصطلحات، وانتقالها إلى مادّة ينفرد بالبحث فيها محيط الرئيس المباشر، المشكَّل من مستشاريه، ومنْ أفراد نافذين من أصدقائه، أو منْ مجموعات ضغط، أو مراكز تفكير واستطلاع رأي من خارج جسم الدولة. وهذا ما بات البعض يسمّيه بخصخصة قرارات السياسة الخارجية. وهنا بيت القصيد.

في حزيران 2022، أضرب الدبلوماسيون الفرنسيون للمرّة الأولى منذ 20 عاماً بسبب إصلاحات قرّر ماكرون المضيّ بها، واعتبروا أنّها تقوّض دور وتأثير الدبلوماسية الفرنسية. حسب موقع “فرانس 24″، تمتلك باريس ثالث أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، حيث يبلغ عدد الدبلوماسيّين الفرنسيّين نحو 1,800 دبلوماسي. في حين يبلغ مجمل العاملين في وزارة الخارجية نحو 13,500 شخص.

مواقف ماكرون وتحوّلاتها جلبت له انتقادات النخب والبيروقراطية الفرنسية. أوّلاً بسبب التخلّي عن المبدأ الذي أرساه الزعيم التاريخي شارل ديغول بشأن “دعم حلّ الدولتين” و”التوازن الإيجابي بين طرفَي النزاع”

الأزمات مع العرب

استمرّت الاعتراضات بعدها داخل أروقة الكي دورسيه (وزارة الخارجية) على الدبلوماسية الماكرونيّة التي تلقّت ضربات شديدة الوطأة في السنة الحالية، ولا سيما في القارّة الإفريقية. فما بين شهرَي آب وأيلول خسرت فرنسا نفوذها في النيجر والغابون بعد مالي وبوركينا فاسو. ليس ذلك فحسب، بل خرجت التظاهرات الشعبية في غير دولة إفريقية للتعبير عن الغضب من الخطاب الكولونيالي لماكرون، الأمر الذي أحدث صدمة في البيروقراطية الفرنسية.

من الجمل المفتاحية الواردة في متن مقالة “لوفيغارو” لفهم مدى ارتباط تراجع حضور وتأثير الدبلوماسية الفرنسية بمواقف وأداء الرئيس إيمانويل ماكرون شكوى عدد من السفراء وقّعوا على مذكّرة اعتراض تبيّن “عدم استطاعتهم الوصول لداوئر القرار في الدول التي يعملون فيها”.

كما أسلفنا فإنّ السفراء الموقّعين على المذكّرة يعملون في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي الدول العربية. وبالفعل، فإنّ الدبلوماسية الفرنسية تواجه أزمات كبيرة في علاقاتها مع أكثر من بلد عربي، بعضها صامت، وبعضها الآخر خرج إلى العلن. من الأمثلة على ذلك، سعي ماكرون إلى إبرام صفقة رئاسية في لبنان بالشراكة مع الحزب، ومحاولته فرضها على اللجنة الخماسية، للحصول على منافع اقتصادية، لكنّ الرياض أجهضت كلّ المساعي الماكرونيّة.

إذا كانت فرنسا قد نجحت، وإن بصعوبة، في طيّ صفحة الأزمة مع الجزائر التي أشعلتها تصريحات ماكرون أواخر عام 2021 عن “عدم وجود أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي”، فإنّ الأزمة الصامتة مع المغرب التي بدأت بسبب خفض باريس التأشيرات الممنوحة لأبناء المغرب العربي، خرجت إلى العلن. في شباط الماضي، أنهت الرباط عمل سفيرها في باريس من دون أن تعيّن بديلاً عنه. وحينما حصل الزلزال في أيلول الماضي، رفضت الحكومة المغربية المساعدة الفرنسية. كما امتنع الملك محمد السادس عن تلقّي اتّصال هاتفي من الرئيس الفرنسي، حسبما كشفت وزيرة خارجيته كاترين كولونا.

وهذا ما أثار حنق ماكرون شخصياً، فخرج عبر حسابه على منصة “إكس” بخطاب موجّه مباشرة إلى الشعب المغربي، كسر فيه الأعراف والتقاليد الدبلوماسية بمخاطبة رئيس لشعب غير شعبه وتجاهل سلطات البلاد، وهو ما أثار موجة استياء عارمة في الشارع المغربي. كذلك، فقد رفضت الرباط تحديد موعد لاستقبال الرئيس الفرنسي، الذي يشير الإعلام المغربي الى أنّها طوت صفحته، وتنتظر خلفه في الإليزيه كي تحاول فتح صفحة دبلوماسية جديدة معه.

 

فيديو ماكرون للشعب المغربي

 

هاشتاغ “أنا مغربي أرفض خطاب ماكرون”

السؤال الذي يطرح نفسه: هل تعيش باريس خريف دبلوماسيّتها العريقة، أم خريف دبلوماسيّة رئيسها الذي يحاول تعويض خسائره المتراكمة عبر الانفتاح على نظام الملالي الإيراني لتحصيل مكاسب اقتصادية في الدول التي تمتلك طهران نفوذاً واسعاً فيها؟

إقرأ أيضاً: غزّة تهزّ فرنسا: تمرّد دبلوماسي وقضائي على ماكرون

مواضيع ذات صلة

الجماعة الإسلامية: انقلاب يقوده الأيّوبيّ ومشعل

إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في “الجماعة الإسلامية”، فعليك أن تعرف ماذا يجري في حركة حماس،  وعلاقة الفرع اللبناني بالتحوّلات التي تشهدها حركة حماس……

لا تعهّد إسرائيليّاً بالانسحاب

قابل مسؤولون إسرائيليون الشكاوى اللبنانية من الخروقات المتمادية لقرار وقف إطلاق النار، بسرديّة مُضلّلة حول “الانتشار البطيء للجيش اللبناني في جنوب الليطاني، بشكل مغاير لما…

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…