حرب السرديّات


حرب غزة ليست مجرد معركة بين القوات المسلّحة، بل هي حرب سرديّات. تأثّرت بشكل كبير بتقدّم التكنولوجيا وتطوّر أساليب استقاء المعلومات ونشرها. وهو ما أعاد فتح باب بداية الصراع التاريخيّ لكن بتفسيرات جديدة اعتقد البعض أنّ الزمن مرّ عليها.
انتشار شعار فلسطين “من النهر إلى البحر” في التظاهرات التي تعمّ العواصم الغربية، دليل على أنّ الجيل الجديد يعتمد على طرق جديدة سهلة المنال للبحث في تكوين الرأي.
على الرغم من التقدّم السريع في التكنولوجيا وتدفّق المعلومات بشكل فوري، أصبحت الحقيقة أكثر غموضاً بدلاً من أن تصبح أكثر وضوحاً. هذه الظاهرة تطرح أسئلة حاسمة حول دور التكنولوجيا في تشكيل الإدراك العامّ والتحدّيات التي تطرحها في التمييز بين الحقيقة والتضليل. خطورة هذا الأمر أنّ ردود الفعل والسياسات وانتقال النزاع يتأثّر إلى حدّ كبير بالروايات الأكثر انتشاراً، وهو ما يساهم في ارتفاع نسبة سوء الفهم.

لماذا تعدّد الروايات؟
نظرياً، كان من المفترض أن تساهم التطوّرات التكنولوجيّة، خاصةً في مجال الاتصالات والإعلام، في تبسيط نشر المعلومات الدقيقة. كان من المتوقّع أن يوفّر البثّ التلفزيوني المباشر والوصول الفوري إلى التقارير الميدانية، وانتشار منصّات التواصل الاجتماعي، نظرة غير محجوبة عن الواقع في مناطق النزاع مثل غزّة. ومع ذلك، الواقع مختلف تماماً. بدلاً من وجود رواية واحدة واضحة، تتعدّد الروايات لقصّة واحدة، كلّ منها ملوّن بمنظورات وتحيّزات وأجندات مختلفة. أكثر من شهر مرّ على كوارث المستشفيات والكلام عن أنفاق تحتها تُستعمل لأغراض قتالية وعمّن قام بقصف مستشفى المعمداني، ولا يزال هناك انقسام حادّ حول من يقول الحقيقة، وكلّ طرف يقدّم أدلّة وتفاصيل متناقضة، حتى أنّ رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إيهود باراك وما له من مكانة وسمعة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم يستطع أن يحسم هذا الجدل داخل إسرائيل، خصوصاً أنه اعترف بأنّ إسرائيل هي من بنت معظم هذه الأنفاق.

حرب غزة ليست مجرد معركة بين القوات المسلّحة، بل هي حرب سرديّات. تأثّرت بشكل كبير بتقدّم التكنولوجيا وتطوّر أساليب استقاء المعلومات ونشرها

وكأنّ القاعدة أصبحت: قل لي ما هي آراؤك وما ترغب بأن تسمع وتشاهد، أقُل لك أيّ محطة ومؤسّسة إعلامية تشاهد ومنصّة تتابع. وضع السردية والرسالة الموجّهة ثمّ انتقاء الصور والمشاهد وإدخال المؤثّرات لكي تتناسب مع هذه السردية هي أسلوب العمل المعتمد في توضيب التقارير الإعلامية.
النزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو نزاع مليء بأبعاد تاريخية وسياسية ودينية واجتماعية معقّدة، يُنظر إليه بشكل مختلف من قبل مختلف الجهات الفاعلة العالمية. وكانت السردية الإسرائيلية هي السائدة في معظم الأحيان. وغالباً ما يتمّ تقديم الحدث نفسه بروايات متباينة بشكل صارخ. إلا أنّ البارز أخيراً أنّ التباين في تبنّي السرديات لم يعُد الغرب مقابل العالمين العربي والإسلامي، إنّما تحوّل إلى تباين في الفهم والتعاطف بين الأجيال. نسبة التأييد لإسرائيل بين شريحة الشباب في الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية تراجعت إلى حدّ كبير مقارنة بنسبة التعاطف والتأييد بين الذين يتخطّون عمر الخامسة والثلاثين التي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق.
يرجع هذا التعدّد في الروايات جزئياً إلى تنوّع مصادر المعلومات. تساهم وسائل الإعلام الرئيسية، والصحافيون المستقلّون، والمؤثّرون على وسائل التواصل الاجتماعي، والأفراد على الأرض، جميعهم في تكوين هذا البحر الواسع من المعلومات. قد يقدّم كلّ مصدر زاوية مختلفة، تتأثّر بموقفه الجيوسياسي، وخلفيّته الثقافية، أو معتقداته الشخصية.

السرديّات تصنع السياسات
تؤثّر حرب السرديات بشكل كبير على الرأي العامّ، وبالتالي على صناعة السياسات. في المجتمعات الديمقراطية، حيث يمكن للرأي العامّ أن يؤثّر على السياسة العامّة للدولة، يمكن للرواية التي يتمّ تقديمها وتصديقها أن تشكّل الاستجابات الدولية للنزاع. قد تؤدّي المعلومات المضلّلة أو الروايات الأحادية الجانب إلى تشويه الإدراكات والسياسات التي قد لا تتماشى مع الواقع على الأرض، وهذا ما حصل في الأيام الأولى للحرب حين كان الانحياز الغربي، وتحديداً الولايات المتحدة وفرنسا، إلى تصديق السردية الإسرائيلية واضحاً، وهو ما دفع رؤساء هذه الدول إلى تبنّي روايات تراجعت عنها لاحقاً نتيجة التسرّع في تبنّي روايات تمّ نسجها لخدمة سردية معيّنة.
تقدّم حرب الروايات في سياق حرب غزة تذكيراً صارخاً بالتحدّيات التي يطرحها المشهد الإعلامي الحديث. بينما للتكنولوجيا القدرة على التنوير، لديها أيضاً القوة على التشويش والتضليل.

إقرأ أيضاً: إسرائيل: تفوّق عسكريّ وبروباغندا فاشلة

يتطلّب تمييز الحقيقة في بيئة معقّدة كهذه التفكير النقدي، والانفتاح على المعلومات المتعارضة، ونهجاً حذراً عند استهلاك وتفسير العديد من الروايات المقدّمة. البحث عن الحقيقة في عصر تكدّس المعلومات أصبح أكثر تحدّياً، لكنّه في الوقت نفسه أهمّ من أيّ وقت مضى لأنّ حشد دعم وتأييد شعبي أو رسمي يعتمد إلى حدّ كبير على وضع أو تغيير مواقف وسياسات، وهو ما قد يكون عاملاً حاسماً في تغيير نتائج الصراعات.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mouafac@

مواضيع ذات صلة

لبنان ضحيّة المفهوم الخاطئ للانتصار!

يُخشى تحوّل لبنان ضحيّة أخرى للمفهوم الخاطئ للانتصار، وهو مفهوم رائج لدى قسم كبير من الأنظمة السياسية في المنطقة. ليس مفهوماً إلى الآن كيف يمكن…

“علوّ اليهود في الأرض”.. كيف نواجهه؟

“إعصار البايجر” هو النقطة الفاصلة في هذه الحرب، الإسنادية في شكلها، الاستنزافية في جوهرها. هو ليس تفصيلاً بسيطاً، بل رأس الجبل من تجويف خطير لخطاب…

بزشكيان ابن مهاباد يفعّل كرديّته في العراق !

لا تطلب إيران المساعدة من أحد لمعالجة مشاكلها الداخلية والخارجية، لكنّها لا تتردّد في فرض خدماتها على الآخرين في الإقليم.   قرار الرئيس الإيراني مسعود…

نكسة لبنان الرقمية

هل يمكن، بالمعنى العسكري، إلحاق الهزيمة بإسرائيل، من طرف “حزب الله”، أو حتى الأم الراعية، إيران، ناهيك، حتى لا ندخل في دائرة المزح، من طرف…