رواية طفل فلسطيني عن “مقبرة الأحياء”

2023-12-05

رواية طفل فلسطيني عن “مقبرة الأحياء”


“كانوا يأتون إلينا في ساعات محدّدة وأيام محدّدة، وينهالون علينا بالضرب والتعذيب بعد أن يأخذوا كلّ الثياب التي معنا والفرشات والأغطية، ثمّ يتركوننا للبرد القارس بعد أن يعمدوا إلى رشّ المياه الباردة علينا”. ما سبق ليس مقتطفاً من فيلم سينمائي، وليس مقتبساً من رواية ما. وليس كذلك من كوكب آخر. أشدّ من ذلك، إنّه ليس كلاماً لرجل بالغ، ارتكب جريمةً ما، فنال ما سبق عقاباً له وقصاصاً. وأيضاً ما سبق لم يجرِ في قبو مظلم بعيد عن الإعلام وألسنة الناس والأحزاب والجمعيات والمنظّمات والدول.

ما سبق كلام تفوّه به أمام عدسات الإعلام، طفل أُطلق سراحه أخيراً من سجون الاحتلال الإسرائيلي في صفقة تبادل جرت بين حركة حماس والكيان الإسرائيلي، يُدعى عمر العطشان.

أضاف عمر عن أوضاعه وزملائه في سجون الاحتلال الإسرائيلي: “تعرّضنا لضرب مستمرّ، وكأنّ عند السجّانين جدولاً محدّداً لتعذيبنا. كنّا نعيش عزلةً تامّةً داخل السجن، والأمور ساءت كثيراً بعد 7 أكتوبر. ازداد التعذيب والذلّ والقهر، واقتصر طعامنا على قليل من الخبز. كانوا يعطوننا وجبات صغيرة جداً لا تكفي عدد السجناء في الغرفة الواحدة”.

يُعدّ سجن النقب، أو سجن كتسيعوت (بئر) كما تطلق عليه سلطة الاحتلال الإسرائيلي، من أسوأ السجون الإسرائيلية، إن لم يكن من أسوأ السجون في العالم

عن استشهاد زميله الأسير ثائر أبو عصب، يروي: “يوم 19 تشرين الثاني سأل ثائر أحد السجّانين عن الهدنة، وإن كان سيفرج عنّا، فانهالوا عليه بالضرب والتعذيب بشكل وحشي وتركوه مرميّاً داخل الغرفة. كان يتألّم كلّ الليل وأحسسنا أنّه يكاد يلفظ أنفاسه. قمنا بمناداة عناصر الاحتلال في سجن النقب ليسعفوه، إلا أنّهم تجاهلونا حتى استشهد. الاحتلال لم يكن مهتمّاً بما يحدث للأسرى. وكان فقط يقوم بانتشال جثث الأسرى ثمّ العودة لممارسة العنف من جديد”.

مقبرة الأحياء

وصف عمر السجن قائلاً: “سجن النقب مقبرة الأحياء. ليس هناك من وجبات طعام، بل هناك وجبات تعذيب وضرب. كانوا يأتون بالطعام دون توقيت، لكنّ ضربنا وتعذيبنا كانا يخضعان لبرنامج يومي صباحاً وظهراً ومساءً. اقتلعوا الشبابيك بعد 7 أكتوبر، وأخذوا منّا كلّ الأغطية والملابس كي نواجه البرد، والكثيرون من الأسرى توعّكوا صحّياً، ومنهم من مات بسبب ذلك. كانوا يتقصّدون إهانتنا بالشتيمة لأهلنا ولديننا”.

أمّا كيف تمّ اعتقال الطفل عمر العطشان وزجّه في السجن في 1/4/2022 ثمّ خروجه منه في 27/11/2023 وكأنّه رجل كامل النضوج، فتفيد الأخبار أنّ ذلك حدث بعدما وُجّه إليه اتّهام بحيازة السلاح في مدينة رام الله، وهو أمر نفاه عمر وعائلته. يختصر عمر في شخصه كلّ حكايات الأطفال الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. كان شجاعاً عند خروجه، وهو يروي فظائع الاحتلال بحقّ الأسرى داخل السجن وكأنّه ناطق إعلامي باسم الأسرى. تحدّث في كلّ شيء، وتهدّج صوته وهو يروي قصة مقتل زميله الأسير ثائر أبو عصب.

استناداً إلى أرقام وزارة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينية فإنّ إسرائيل تحتجز حالياً قرابة 2,300 أسير في النقب (كتسيعوت) من أصل 11 ألفاً تعتقلهم في سجونها ومعتقلاتها المختلفة

سجن “الانتفاضات” في النقب

يُعدّ سجن النقب، أو سجن كتسيعوت (بئر) كما تطلق عليه سلطة الاحتلال الإسرائيلي، من أسوأ السجون الإسرائيلية، إن لم يكن من أسوأ السجون في العالم.

أنشأه الجيش الإسرائيلي في آذار 1988 في صحراء النقب قرب الحدود المصرية، لاستيعاب الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين مع اندلاع الانتفاضة الأولى (1987-1994). ولم تلبث إسرائيل التي أغلقت المعتقل عام 1996 في أعقاب قيام سلطة الحكم الذاتي، أن أعادت فتحه في نيسان 2002 لاستيعاب آلاف الفلسطينيين الذين اعتقلتهم لمشاركتهم في الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000.

نُقل الإشراف على السجن من سيطرة الجيش الإسرائيلي إلى مصلحة السجون في عام 2006.

استناداً إلى أرقام وزارة شؤون الأسرى والمحرّرين الفلسطينية فإنّ إسرائيل تحتجز حالياً قرابة 2,300 أسير في النقب (كتسيعوت) من أصل 11 ألفاً تعتقلهم في سجونها ومعتقلاتها المختلفة.

ينتمي المعتقلون إلى مختلف الفصائل الفلسطينية، والكثير منهم من قيادات الصف الأول، وبينهم نحو 700 من المعتقلين الإداريين الذين يعتقلهم جيش الاحتلال وفق قانون عائد لعهد الانتداب البريطاني وخاص بالذين لا تتوافر ضدّهم براهين وأدلّة لمحاكمتهم.

يقيم الأسرى في سجن النقب بخيم تتّسع لـ26 معتقلاً، وينامون على أسرّة مكوّنة من لوح خشبي ومرتبة (فرشة) من الإسفنج بسمك 5 سم، ولذا يعانون العديد من الأمراض، وخاصة آلام الظهر.

على الرغم من افتقار معتقل النقب إلى “أدنى مقوّمات حقوق الإنسان” وفق ما تقوله بيانات وزارة شؤون الأسرى الفلسطينية ووقوعه في الصحراء في موقع معزول عن العالم، فإنّ سلطات الاحتلال عمدت إلى تشديد عزلته.

إقرأ أيضاً: إعاقة إعمار غزّة: العقوبات الأوروبيّة جزء من خطّة التهجير؟

خلال الأعوام الأخيرة قامت السلطات الإسرائيلية ببناء جدران بين مختلف أقسام السجن بحيث بات الأسرى يعيشون الآن في أقفاص معزولة بعضها عن البعض الآخر، إضافة إلى وجودهم في موقع معزول في الصحراء.

خرج عمر العطشان وزملاؤه من سجون الاحتلال الإسرائيلي، فواجهوا حياةً خارج السجن لا تختلف كثيراً عن الحياة في داخله. السؤال عن الطفولة والألعاب وزملاء الدراسة ورفاق اللهو، لا يوجَّه إليه حتماً. خرج فواجه مصيراً من ثلاثة مصائر حدّدها الشاعر محمود درويش:

“فلأكن ما تريد لي الخيل في الغزوات:

فإمّا أميراً

وإمّا أسيراً

وإمّا الردى!”.

ربّما يجيبه بلسان ياسر عرفات “أبي عمّار”: شهيداً شهيداً شهيداً…

مواضيع ذات صلة

لبنان اليوم التّالي… تصوّر إيران لدور الحزب

من الصعب التكهّن بما سيؤول إليه الوضع اللبناني وهل من قيامة للبنان في اليوم التالي للحرب… هذا في حال أوقفت إسرائيل تلك الحرب التي تشنّها…

الاجتماع الثّلاثيّ يغطّي تراجع الحزب… بعد فوات الأوان؟

هل سيتمكّن لبنان من خفض خسائر الحرب المرشّحة للامتداد، بعدما استُدرج إليها بقرار إيراني لجرّ الحزب إلى شباكها؟ أم فات أوان الحدّ من الأضرار الهائلة…

التّصالُح مع “السيّد”… بعد رحيله

كثيرون تصالحوا مع الأمين العام للحزب بعد رحيله. تماماً كما تصالح نصف اللبنانيين مع رفيق الحريري في 14 شباط 2005… هنا محاولة لفهم أسباب هذه…

غابت الأسطورة… “الإطار” باقٍ!!

في سيرة الأسطورة ثمّة لحظة واحدة هي لحظة كافية لولادتها، لحظة يصير فيها صاحبها أسطورة. في سيرة السيّد حسن نصرالله لحظاتٌ كثيرة. البعضُ يحدّدها في…