في ختام الندوة التي أقيمت حول كتابه “المسيحيون في الحياة السياسية في العالم العربي”، الصادر عن دار “سائر المشرق”، في معرض بيروت الدولي للكتاب، أورد المؤلّف الدكتور طارق متري هذه الحادثة. يقول: “منذ أربعة أسابيع قُصفت كنيسة في غزة، كنيسة القديس مورفيليوس من القرن الثالث أو الرابع لا نعرف، وهي للروم الأرثوذكس وعددهم 600، وإنّ عدد المسيحيين في غزة 1,000 مسيحي، وهذه الكنيسة أنشأت مركزاً للخدمات الاجتماعية لخدمة الناس، لكنّها قُصفت وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى والشهداء من المسلمين والمسيحيين”.
يضيف متري أنّه اتصل بصديقه “المدير الطبي للمركز، لأستوضحه عمّا جرى، فقال لي نعيش ونموت معاً، هذه هي الدرجة صفر من المواطنة التي تشغلني في هذا الكتاب وفي حياتي معاً، أي أنّ مصائرنا مترابطة، ثمّ تأتي بعدها المساواة القانونية بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة، وهذا مستوى ثانٍ من المواطنة”.
متري: المدير الطبي للمركز، لأستوضحه عمّا جرى، فقال لي نعيش ونموت معاً، هذه هي الدرجة صفر من المواطنة التي تشغلني في هذا الكتاب وفي حياتي معاً، أي أنّ مصائرنا مترابطة
وحدة المصير والتقوقع
تلخّص هذه الحادثة، التي يرويها متري، كتابه وما يشغله فيه. ففي ضوء وحدة المصير، يتناول الكاتب في كتابه هذا أوضاع المسيحيين في العالم العربي، وأحوالهم، ويخلص إلى أنّ التقوقع الطائفي، والانقباض على الذات المجتمعية والدينية، لا يوصلان إلى صيغة عيش قابلة للحياة في منطقتنا هذه بمختلف إثنياتها وتنوّعاتها. التقوقع الطائفي يستدعي حتماً تقوقعاً آخر في الجهة المقابلة، فالتطرّف والعنف لا يولّدان سوى التطرّف والعنف.
ينطلق الكاتب في كتابه من سؤال جوهري هو: “إلى أيّ حضارة ينتمي مسيحيو العالم العربي؟ وهل هذا الانتماء هو إلى حضارة خاصة بهم، أو إلى الحضارة العربية الإسلامية المنفتحة على حقوق الأقلّيات؟”، ليخلص إلى أنّ المسيحيين جزء من الحضارة الأخيرة، وليسوا سوى جزء لا يتجزّأ بل مؤسّس من فسيفساء هذه المنطقة وهذه الحضارة. لكنّهم، أي المسيحيين في منطقتنا، وقعوا بين سندان الأنظمة القومية التي أساءت معاملتهم، ومطرقة الدول الأجنبية التي أغرتهم بالوعود، وما لبثت أن تركتهم يواجهون مصائرهم وحيدين، بعدما تراجعت عن وعودها، فأصبحوا لاجئين في دول كثيرة، من بينها دولهم.
الدكتور متري يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة غرب باريس نانتير لاديفونس. وهو رئيس جامعة القديس جورج في بيروت حالياً، وعمل مديراً لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان الممثّل الخاصّ للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا من 2012 حتى 2014.
عُيّن وزيراً بين 2005 و2011، في أربع حكومات لبنانية متعاقبة، وهو أستاذ ومحاضر وأستاذ زائر في جامعات القديس يوسف والبلمند وجنيف وأمستردام الحرّة وهارفرد والجامعة الأميركية في بيروت. ويرأس حالياً مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومجلس أمناء متحف نقولا إبراهيم سرسق.
مضمون في توقيته
تنبع أهميّة كتاب الدكتور متري من توقيت صدوره قبيل أيام من عملية “طوفان الأقصى” في فلسطين المحتلّة، وما يجري حالياً في قطاع غزة، وهي أحداث مصيرية غالباً ما تتوقّف أحوال الأقلّيات بعدها في المنطقة، على موقفها فيها، وفي التاريخ الذي يسرده متري في كتابه شواهد كثيرة على الأمر. فالمسيحيون في فلسطين مثلاً، لم يميّز الاحتلال الإسرائيلي بينهم وبين مواطنيهم المسلمين، فما وقع على الأخيرين وقع عليهم، خصوصاً الذين صمدوا في فلسطين ولم يغادروها عام 1948. بينما، إبّان حكم العثمانيين، “الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة لنصف قرن لم تحاول فرض اعتناق الإسلام على سكّان المقاطعات المسيحية التابعة لها، وأنشأت نظام المُلّة، وهو ما سمح للطوائف غير المسلمة بالاستمرار في ممارسة طقوسهم وعاداتهم”.
الدكتور متري يحمل شهادة دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة غرب باريس نانتير لاديفونس. وهو رئيس جامعة القديس جورج في بيروت حالياً، وعمل مديراً لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت
هجرةٌ تولّد أخرى
ينوّه متري بالدور الذي لعبه المسيحيون في العالم العربي، وهو الدور الريادي والطليعي الذي يفوق بكثير ما يشغلونه من حيّز في ديمغرافيا المنطقة، ليخلص إلى أنّ العدد قد يبعث على إشكالات معيّنة، لكنّه لا يشكّل فارقاً جوهرياً كبيراً نسبةً إلى ما يذكره التاريخ من أدوار أساسية في كلّ حضارة أدّتها الأقلّيات المسيحية في بلادنا.
يشدّد متري على أنّ الهجرة، هجرة المسيحيين، لا تولّد إلا الهجرة، بينما تصدّي المسيحيين لما يصيب المنطقة من أهوال وصراعات تهدّد وجودها وفسيفساءها الاجتماعية والإثنية، جنباً إلى جنب شركائهم المسلمين، إنّما أجدى لهم وأبقى، خصوصاً إذا ما كان تحت شعارات كبيرة غير تمييزية دينياً أو عرقياً. الدليل على ذلك هو ما يورده متري عن أحوال أقباط مصر، التي تراجعت كثيراً في العقود السابقة عمّا كانت عليه خلال العهد الأسبق، أي أيام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
اشتداد شوكة المسلمين وارتداد المسيحيّين
في هذه اللفتة الكثير من الصواب الذي يدعو إلى التأمّل. ففي أيام عبد الناصر، كانت المرحلة مرحلة مدّ قومي ويساري، بعيدة بعض الشيء عن الدين والحركات الدينية الأصولية التي اقترحت الإسلام حلّاً لجميع المشكلات، فانضوى المسلمون والمسيحيون معاً وانصهروا تحت شعارات كبيرة تشملهم كلّهم وتحاكي مصائرهم. بينما في المراحل التالية، مراحل صعود الإسلاميين واشتداد شوكتهم، ارتدّ كلٌّ إلى بوتقته أو شرنقته الطائفية والمذهبية، وتالياً ازداد التمييز واشتد القمع والاضطهاد.
المواطنة هي الحلّ
يخلص الكاتب إلى أنّ الحلّ الأمثل للمسيحيين وغيرهم في العالم العربي، هو قيام الدولة الوطنية العادلة، والتصرّف كمواطنين متساوين أمام القانون، وهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأغلبية المسلمة والأنظمة القائمة، كما يقع جزء منها على عاتق المسيحيين الذين لن يصيبهم إلا ما يصيب شركاءهم من المسلمين.
إقرأ أيضاً: شبيب الأمين يرثي أصدقاءه… “هازئاً بالأبد”
ينطلق متري في موقفه هذا من خلفية أرثوذكسية مشرقية، لم تخُض يوماً غمار سياسات ضيّقة ولم تتقوقع في تجمّعات أو أحزاب خاصة بها، ولم ترفع مطالب ضيّقة في تاريخها الطويل في بلادنا. هي أرثوذكسية تنطلق من مشرقية أصيلة وراسخة، وتستند إلى تاريخ طويل من الانصهار الوطني والانفتاح على الآخرين، في المنطقة كلّها تقريباً. فالأرثوذكس المشرقيون لم ينحصروا في بلد، أو في رقعة جغرافيّة محدّدة، وإنّما هم منتشرون في شتّى بلدان العالم العربي، ومتجذّرون في التاريخ حيث هم، وعليه خبرتهم في أحوال البلاد ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تخوّلهم لعب دور توفيقي وحضاري ما، وسط أقلّيات كثيرة لطالما انجرفت إلى صراعات ورهانات لم تُثبت جدواها يوماً ولم تؤدِّ إلا إلى مزيد من الاضطهاد والتهميش والذمّية السياسية والهجرة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@