36 يوماً في الرياض: مشاهدات… لا مجاملات

مدة القراءة 7 د


لم يكن بمقدوري إلا أن أعبّر كتابياً عمّا رأيته في السعودية، وخاصة في الرياض، لأنّها كانت تجربة جديدة وغنيّة في الحياة. فالصورة التي كوّنتها بيّنت لي مدى أهمية فهم الناس من خلال العيش والتواصل اليومي معهم. فما شعرت به من أخلاقيات وسلوكيات، حتّم عليّ تسجيله بحبر نظيف وموضوعي. والموضوعية السوسيولوجية التي نحدوها هنا هي إبراز الصورة بشكلها الراهن بناء على الواقع الذي عشناه، وليس المتخيّل.

ما أكتبه هنا هو لعرض تجربة معيشية قليلة زمنياً لكنّها أغنتني ثقافياً ومعرفياً عن شعبٍ لم أكن قد عايشته من قبل. لا يعني ذلك أبداً أنّني لم أكن على تماسّ مع باحثين وزملاء من المملكة، على العكس لديّ العديد من الزملاء والأصدقاء، لكن كان تواصلنا محصوراً ضمن لقاءات خلال المؤتمرات والمنتديات العلمية، وبشكلٍ عام، تكون هذه اللقاءات شكلية من دون وجود ما يدلّ على سلوكية التعامل الاجتماعي في العمق. هذه التجربة هي تجربة حياة عشتها مع الناس بكلّ تفاصيلها.

لم يكن بمقدوري إلا أن أعبّر كتابياً عمّا رأيته في السعودية، وخاصة في الرياض، لأنّها كانت تجربة جديدة وغنيّة في الحياة. فالصورة التي كوّنتها بيّنت لي مدى أهمية فهم الناس من خلال العيش والتواصل اليومي معهم

مطار الرياض…

المهمّ، عند وصولي إلى مطار الملك خالد الدولي مع عائلتي، شاءت الصدف أن يكون عندي اجتماع من بعد مع إحدى اللجان العلمية التي أشارك فيها (اللجنة العلمية العليا للمرصد العربي للترجمة)، والمشاركة كانت مهمّة لأنّه الاجتماع الأوّل. وصلت الطائرة الساعة الحادية عشرة والربع صباحاً، والاجتماع كان الساعة الواحدة. بعد إجراءات الدخول التي كانت سريعة جداً، بسبب التنظيم الجيّد لحركة المسافرين، أردت أن أبلّغ بشكلٍ سريعٍ عن وصولي، لهذا كانت الحاجة إلى شريحة هاتف ضرورية كي أشارك في الاجتماع. فسألت إحدى الموظّفات، وكنت ما زلت بانتظار الحقائب، عن المكان الذي باستطاعتي شراء شريحة للهاتف منه، كي أتواصل بسرعة، قالت بالحرف الواحد: “أهلاً وسهلاً بك في الرياض، المكان لشراء الشريحة تجده عند الخروج من الجمارك، وهو بعيد قليلاً، وإذا خرجت من باب الجمارك، لن يعود الدخول ممكناً”، وأضافت، “بما أنّك ضيف عندنا، فسأعطيك إنترنت من هاتفي عبر الهوت سبوت”، وهذا ما حصل. كان بإمكانها أن تنهي المحادثة، لكنّها، بفضل لطافتها واحترامها لمن يزور المملكة، قامت بما رأته يرفع من شأنها ومن شأن كلّ الناس.

كان ذلك التواصل الأوّل مع السعوديين. أمّا التواصل الثاني، فكان عند وصولنا إلى مكان الإقامة، حيث استقبلنا موظف البيوت المفروشة بالترحاب والابتسامة، وكان يكفي أن أسأله عن مكان بإمكاني أن أطلب منه طعاماً للأطفال، حتى قال لي “أبشر”. لقد قام بكلّ ما يلزم، ولم يكن ذلك من ضمن وظيفته.

سائقة التاكسي… ومحبّة لبنان

ما أبهرني في هذه الأيام الستّة والثلاثين، هم سائقو الأجرة عبر تطبيقات الإنترنت، بما أنّني كنت أتنقّل بالتاكسي نظراً لعدم معرفتي بالأمكنة، إذ كان أكثرهم سعوديين، وكانوا من كلّ الأعمار، فبينهم متقاعدون وموظفون وطلاب جامعات، وكانوا رجال ونساء. وهذا ما أغنى فهمي للمجتمع. وببساطة، نعلم جيّداً أنّ من يعمل كسائق تاكسي يقوم بهذا العمل لحاجة مادّية. عدد المرّات التي لم يأخذوا فيها منّي بدل التنقّل لا يُعدّ. السبب كان بقولهم: “أنت ضيف عندنا”، هذه الجملة ليست كجمل سائقي التاكسي الذين يتلفّظون بها لأخذ أكثر ممّا هو مطلوب، بل على العكس كانوا صادقين في قولهم، فقد كانت دائماً مصاحَبة بجملة: “لا والله لن أقبل، فقد حلفت”. عندما يقول لك “لقد حلفت”، فهذا يعني أنّه بات من المستحيل أن يتراجع عن قوله، فقد حلف بالله عزّ وجلّ. وهذا دليل على صدقهم في تعاطيهم مع الإيمان. فالألفاظ الإيمانية ليست مجرد كلمات فارغة تُرمى يميناً وشمالاً، بل تعبّر عن ثقافة وعن منظومة قيم لا تزال موجودة عندهم ولم نعد نعرفها كثيراً. لا أعرف إذا ما كانت هذه البلاد هي التي تزرع بمن يقيم فيها هذه القيم… بلاد الأنبياء وبلاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

 لماذا يحبّ الشعب حكّامه؟ الجواب بسيط جداً: لأنّهم يوفّرون للمواطن ما يريد. وهذا ما يقوم به وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.

تبهرك لطافة الشعب السعودي وأصالته اللتان لم أرَ ما يضاهيهما حسب معرفتي بالشعوب التي عايشتها. فأنا عايشت في أوقاتٍ مختلفةٍ شعوب البلغار والروس والألمان والفرنسيين وغيرهم من بعض الدول العربية، ولكنّني لم أر مثل اللطافة والكرم اللتين يتمتّع بها الشعب السعودي. خلال كلّ هذه المدّة، لم يسألني أحد أيّ سؤال شخصي. في أماكن البيع وفي الطرقات، عندما تسأل أحدهم عن مكانٍ ما، يذهب معك لكي يدلّك عليه… أو يشرح لك بالتفصيل كيف تصل.

هذا عن القيم، فماذا عن التطوّر؟

لنبدأ بالتقنيّات. حصلت على رقم إحدى شركات خدمة الإنترنت لكي أحصل على خطّ في البيت. اتّصلت في الساعة السادسة مساءً، فلم يدُم انتظاري وصول عمّال الشركة وتمديد الشريط (فايبر أوبتيك) أكثر من نصف ساعة، وكان خطّا الجيلين الرابع والخامس في الخدمة.

ثمّ شاءت الظروف الصحّية لأحد أفراد عائلتي، حين أصيب بحالة تسمّم حادّة، أن نذهب بسرعة إلى المستشفى، فنزلنا إلى الشارع لانتظار تاكسي أو سيارة إسعاف، بما أنّني لا أعرف إلى أين أذهب، سألت أحد الواقفين أمام البناية عن عيادة أو مستشفى، فلم ينتظر لحظة واحدة ولم يفكّر دقيقة واحدة، بل قال: “تفضّلوا وسأوصلكم إلى أقرب مستوصف”. وصلنا إلى العيادة بسرعة وخوف، وأخبرنا الطبيب مباشرةً أنّ المريض بحاجة إلى مستشفى، وسألناه من أين نأتي بسيارة للذهاب الى المستشفى بسرعة. ولكنّنا وجدنا من أوصلنا مشكوراً ينتظر في حال كنّا بحاجة إلى مساعدة. وهذا ما حصل، فقد أوصلنا إلى أقرب مستشفى… مستشفى دله.

دخلنا الطوارئ، فلم يسألنا أحد لا عن الأوراق ولا عن الأموال، ولا عن أيّ شيء أبداً، بل كان اهتمامهم بالمريض أوّلاً. بعد التأكّد من الحالة، جرى نقلنا إلى مركز العناية الفائقة، ونمنا في المستشفى لمدّة يومين. لم ينتظر موظف دائرة الدخول التأكّد من التأمين والموافقة والأموال ولا أيّ طلب نهائياً، بل قال: اهتمّوا بالمريض أوّلاً.

عند دخول غرفة العناية الفائقة، تأكّدت أنّ هذا البلد بات من أهمّ بلدان العالم. فالتقنيات الطبية الموجودة والخدمات التمريضية المتاحة تتخطّى ما هو موجود في أوروبا، لأنّني أعلم ما هي، ولا أشكّ أبداً في أنّها تتخطّى أو توازي أهمّ مستشفيات أميركا. لكلّ مريض ممرّض أو ممرّضة، (واحد لواحد)، والأجهزة موجودة داخل غرفة العناية، وموجودة خارجها أيضاً للمراقبة من بعد. أمّا الأطبّاء عند السؤال عن حالة المريض، لا يتأفّفون، بل يشرحون لك الحالة بكلّ تهذيب دون إشعارك أنّهم انزعجوا من السؤال مثلما نلاحظ عند العديد من الأطبّاء هنا وفي أماكن عديدة.

كان يكفي زوجتي ربع ساعة لفتح حساب في المصرف، ويوم واحد للحصول على بطاقة الدفع. كلّ شيء بات ممَكْنَناً رقمياً. التحوّل الرقمي في جيوب الناس، وهو كما ذكرت في كتابي “مرايا التحوّلات الرقمية”: “التحوّل الرقمي ليس خطاباً، بل فعل وممارسة”، كما هو الحال في السعودية.

لا بدّ من ذكر الشوارع والأوتوسترادات المنظّمة والنظيفة، والمراكز التجارية ومراكز الترفيه، وذكر ما يبنى حالياً من حدائق.

إقرأ أيضاً: إكسبو الرياض 2030: الرياض عاصمة العالم

الشعوب… والحُكّام

السؤال البديهي: لماذا يحبّ الشعب حكّامه؟ الجواب بسيط جداً: لأنّهم يوفّرون للمواطن ما يريد. تريد عملاً سنجد لك عملاً. تريد كهرباء فهي مؤمّنة. تريد ماءً تأتيك نظيفة من الصنبور. تريد أن تعلّم أطفالك، ففي كلّ حيّ مدرسة. أمّا القوانين فهي تطبَّق على الجميع. هذه هي أبسط أسس الحياة التي تحافظ على كرامة الفرد. وهذا ما يقوم به وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان.

هذه هي تجربة بسيطة في الحياة أكتبها لأردّ الجميل لمن فعل الجميل.

*استاذ باحث في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي، ورئيس مركز الأبحاث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…