ردّ سريع وصاعق قامت به الولايات المتحدة بعد ساعات على تعرّض موقع لها في سوريا الخميس الماضي لهجوم بطائرة مسيّرة. أسفر الهجوم، الذي اتُّهمت ميليشيات موالية لإيران بالقيام به واستهدف “منشأة صيانة” قرب الحسكة، عن مقتل متعاقد أميركي وجرح آخرين. وحين تخسر واشنطن مواطناً أميركياً تتحرّك أيّ إدارة للردّ انتقاماً.
تتحدّث التقارير عن أنّ القصف الأميركي المضادّ ليل الخميس – الجمعة لمواقع ميليشيات قرب البوكمال وأطراف مدينة الميادين، أسفر عن سقوط حوالي 20 قتيلاً في صفوف قوات الحرس الثوري وحلفائه. ردّت الميليشيات بقصف مواقع أميركية في منطقة حقل العمر النفطي، ولاحقاً في حقل كونيكو للغاز. لم تتّهم واشنطن إيران مباشرة، لكنّها حذّرتها من دعم هذه الهجمات. بالمقابل لم تعترف طهران بالخسائر ولا بقصف أهداف أميركية اتُّهمت به جماعاتها.
أظهرت إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة عزماً عاجلاً على التحرّك العسكري المدروس لـ “حماية” جنودها في سوريا، وفق جون كيربي، المتحدّث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض. فإذا كان ما تعرّضت له مواقعها في سوريا اختباراً من قبل تلك الجماعات وطهران من ورائها، فإنّ نتائج الاختبار كشفت جهوزية أميركية لاستخدام فائض قوّة حتى لو أدّى الأمر إلى سقوط خسائر بشرية لدى “العدوّ”.
تتحدّث التقارير عن أنّ القصف الأميركي المضادّ ليل الخميس – الجمعة لمواقع ميليشيات قرب البوكمال وأطراف مدينة الميادين، أسفر عن سقوط حوالي 20 قتيلاً في صفوف قوات الحرس الثوري وحلفائه
تسخين جبهات سوريا
ليس الحدث صدفة ميدانية، بل يعبّر عن قرار بتسخين جبهات سوريا المرتبطة مباشرة بالوجود العسكري الأميركي هناك. ولئن سبق لدمشق وأنقرة وطهران وموسكو أن كرّرت المطالبة بانسحاب القوات الأميركية من هذا البلد، فإنّ المواجهات الأخيرة تنهل توقيتها من أجندات أخرى قد لا تكون من داخل سياق تبرّم كلّ هذه الأطراف من حضور الولايات المتحدة العسكري داخل المشهد السوري.
تنشر الولايات المتحدة 900 جنديّ يتمركزون داخل قواعد ومواقع شرق الفرات وفي مثلّث التنف قرب الحدود السورية العراقية الأردنية. ولطالما تعرّض هذا الوجود لانتقادات داخل الولايات المتحدة نفسها لجهة اعتباره غير كافٍ من جهة أو غير ضروري والمطالبة بالانسحاب الكامل من هذا البلد من جهة أخرى. وسبق للرئيس السابق دونالد ترامب أن قرّر، إثر مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في كانون الأول 2018، سحب القوات الأميركية من سوريا قبل أن يتراجع لاحقاً إثر تدخّل المؤسّسات العسكرية والأمنية.
وكان رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي قد زار في 5 آذار قوات بلاده شمال شرق سوريا، معبِّراً بزيارته هذه عن إرادة في واشنطن لتأكيد الحضور العسكري الأميركي واستمراره هناك واعتباره “مهمّاً لأمن الولايات المتحدة”، حسب تصريحاته. غير أنّ الجدل غير المحسوم داخل الكونغرس ولدى الرأي العام الأميركي قد يُغري خصوم واشنطن الإقليميين، وإيران بالذات، بتجريب ضغوط على المواقع الأميركية في سوريا لعلّها تؤدّي إلى تهيئة مناخ سياسي في واشنطن وعسكري لدى البنتاغون لإعادة تموضع هذه القوات وسحبها نهائياً.
فتّش عن إسرائيل
يعتمد هذا المناخ على ما تُظهره الولايات المتحدة من ميل إلى تخفيف انخراطها في الشرق الأوسط من أجل تكثيفه في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكنّ القصف الإيرانيَّ الدوافع يرتبط أيضاً بما لا نعرفه عن المداولات المتعلّقة بالمفاوضات بشأن البرنامج النووي وبما تخطّط له الولايات المتحدة وإسرائيل وأظهرته مناورات نيفادا الأخيرة (بدأت في 12 آذار) من خيارات عسكرية محتملة. كما أنّ هذا “التحرّش” لا يمكن أن يبتعد عمّا تحمله جبهات أوكرانيا من رسائل تصل إلى مناطق تماسّ أخرى في العالم، بما في ذلك سوريا.
ليس كشفاً أنّ إيران وروسيا في حالة تحالف حقيقي اتّخذ أبعاداً جديدة من خلال تورّط طهران بالحرب الأوكرانية إلى جانب روسيا. باتت مسيّرات إيران جزءاً من الترسانة الروسية المستخدمة في أوكرانيا، ولعبت دوراً بات مؤكّداً في تحسين إنجازات روسيا العسكرية هناك. ولئن تقدِّم طهران تلك الخدمات ضدّ خيار الولايات المتحدة في أوكرانيا، فإنّ مشتركَ التحالف في العداء لواشنطن يجد مبرّراته الروسية الإيرانية ضدّ الولايات المتحدة في سوريا أيضاً. وقد لا يكون صدفة أن تتمّ الهجمات الإيرانية ضدّ مواقع أميركية في سوريا بعد كشف واشنطن أنّ مقاتلات روسية كثّفت التحليق في آذار الجاري فوق قاعدة التنف الأميركية.
أظهرت إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة عزماً عاجلاً على التحرّك العسكري المدروس لـ “حماية” جنودها في سوريا، وفق جون كيربي، المتحدّث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض
الظاهر أنّ واشنطن مدركة تماماً للرسائل الروسية في ما تقوم به الميليشيات الموالية لإيران ضدّ القوات الأميركية في سوريا. الأمر يفسّر الجراحة الموضعية السريعة والصاعقة وبكثافة نيران كاسحة أدّت إلى سقوط هذا العدد من القتلى في صفوف خصومها مصحوباً بتصريحات لبايدن بأنّ بلاده لا تريد حرباً مع إيران.
يُذكّر ردّ الفعل الأميركي هذا بالضربات التي وجّهتها مقاتلات أميركية في 7 شباط 2018 ضدّ قوات “فاغنر” الروسية قرب بلدة خشام في محافظة دير الزور التي كانت تحاول الاقتراب من مواقع أميركية هناك. أسفر القصف حينها، وفق بلومبرغ، عن سقوط مئات من المرتزقة من دون أيّ ردّ فعل من قبل موسكو التي كانت تؤكّد حينها أنّ “فاغنر” شركة خاصة لا تمثّل روسيا ولا قرارها الرسمي.
ردّاً على اتفاق السعودية وإيران؟
قد يصعب التسليم برابط ما بين التوتّر الإيراني – الأميركي في سوريا والاتفاق السعودي – الإيراني الأخير في بكين. غير أنّ بروز مناخات عربية وتركية إيجابية حيال دمشق تُضاف إلى مناخات موسكو وطهران، يطرح علامات استفهام عن وظيفة ما للمواجهات الأخيرة.
هنا أيضاً يجوز استنتاج علاقة ما بين الدفع الروسي لتطبيع العلاقات العربية مع دمشق والمزاج الأميركي المضادّ الذي عُبّر عنه في 16 آذار بيانٌ أميركيٌ بريطانيٌ فرنسيٌ ألمانيٌ جاء فيه: “لن نطبّع العلاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد ولن نرفع العقوبات حتى التقدّم نحو حلّ سياسي”، و”نظام الأسد يرتكب فظائع في حقّ شعبه، ويسمح للإرهابيين بتهديد الأمن الإقليمي”.
إقرأ أيضاً: مشقّة العيش بين إسرائيل وإيران
أيّاً كانت الدوافع الدقيقة لما تعرّضت وقد تتعرّض له المواقع الأميركية في سوريا، فإنّ هدفها النهائي التعجيل في دفع الولايات المتحدة إلى الخروج من ميدان الفعل في تقرير مسار ما يُخطّط في سوريا. ولئن أوحت النيران الأميركية بتأكيد واستمرار حضور واشنطن على طاولة سوريا، وإن رفَض مجلس النواب الأميركي في 9 آذار انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد، غير أنّ قراراً كهذا قابل للتغيّر والتبدّل، وتعوّل صواريخ ميليشيات إيران على الدفع به باتجاه هذا الاحتمال.