ما من مشقّة تكابدها المنطقة العربية أصعب من العيش بين دولتين: إسرائيل وإيران. كلتاهما تحملان أحلاماً توسّعية. الاثنتان دولتان دينيّتان، وهو ما يجعلهما تغلّبان الإيديولوجية على السياسة.
العدوّان المتكاملان
نعم إسرائيل وإيران عدوّان متكاملان. أي تلتقي عداوتهما في نقطة واحدة: تشتغلان على “المدى الحيوي” نفسه، وهو بالتعريف: “كلّ الدول العربية”.
– إسرائيل تحكمها القلنسوة. تراوح بين “إسرائيل الكبرى” وبين وصية ديفيد بن غوريون: “لا إسرائيل بدون القدس، ولا قدس من دون الهيكل”. وهو ما يعني إمعاناً في تبديد وإسقاط حقّ من حقوق الشعب الفلسطيني. وكذلك انتهاك “مُقدّس” يمسّ المسيحيين والمسلمين.
– إيران تديرها العمائم. وترتبط مذهبياً بجماعات أهلية صغرى على مساحة العالم العربي. وهي راحت تغذّي نسق تلك الجماعات بالإيديولوجية، فتسبّبت بتوتّرات أمنية أصابت الكُلّ العربي.
– استراتيجية الدولتين مهجوسة بالتحكّم والسيطرة. كلتاهما ألغتا التنوّع وجعلتا المواطنين درجات. الكيان الإسرائيلي محكوم بالإيمان اليهودي والعقيدة الصهيونية. جمهورية الملالي تُقسّم الناس وفق معيارين: المذهب الشيعي والقومية الفارسية. وفي الحالين توزّعت الخسائر على الدول العربية بشراً وموارد.
ما من مشقّة تكابدها المنطقة العربية أصعب من العيش بين دولتين: إسرائيل وإيران. كلتاهما تحملان أحلاماً توسّعية
لم تترك تل أبيب دولة جوار عربية إلا وأصلَتها حروباً واجتياحات، والأمثلة تبدأ من فلسطين، فالأردن، مصر، سوريا، ولبنان. حلّقت طائراتها إلى العراق وضربته. بلغت أيضاً تونس فاغتالت القائد الفلسطيني أبا جهاد مُطلق “الانتفاضة” الأولى. وما لم تبلغه حرباً في الدول العربية الأخرى نفّذته عبر “مجموعات الضغط” اليهودية والصهيونية في الولايات المتحدة وأوروبا. لكنّ كلّ هذا أبقى الدول العربية قائمة، وعلى الرغم من تنويعاتها وتقسيم بعضها إلى “تقدّمية” و”رجعية”. وما لم ينجح في فعله الكيان الإسرائيلي تكفّلت به طهران.
إيران لم تترك سبيلاً إلا وسلكته لتصديع الدول على أساس مذهبي وأقلّوي، والأمثلة تشمل لبنان، سوريا، العراق، واليمن، إضافة إلى أذرع جديدة لها راحت تنمو في غزة والضفة الغربية. ومن لم تستطع إدراكه ذهبت إليه ترويعاً وإرهاباً وتأليباً. هكذا حصل في السعودية والبحرين والكويت. قبل كلّ هذا وبعده، فهي تحتلّ ثلاث جزر إماراتية.
القتل والكراهية
الدولتان تحترفان القتال بالهويّات وبثّ الكراهيات:
– إسرائيل يحكمها أشدّ اليمين تطرّفاً. لغة هذا الفريق اليوم تستعيد ماضياً بدأ مع “مؤتمر هرتزل” وصولاً إلى بدايات التأسيس على أرض فلسطين. القتل المجاني والعبثي ضدّ الفلسطينيين يستمرّ بلا هوادة. حتى “عرب 48” يتمّ التعامل معهم على أساس هويّتهم، وهو ما يجعلهم مواطنين درجة عاشرة. واقع كهذا يجعلها دولة بشعوب كثيرة: يهود، إسرائيليين علمانيين، فلسطينيين ودروزاً.
– إيران على مثال إسرائيل: دستورها نصّ على “الإيمان الشيعي” بوصفه الهويّة. أهملت ما فيها من يهود ومسيحيين وعرب سُنّة. وهذا ما يجعل الكلام عن “شعوب إيرانية” صائباً ومحقّاً. القرار النهائي عند المرشد ومعه “الحرس الثوري”. هيكلية الدولة من رئيس إلى حكومة بلا فاعليّة تُذكر في الاستراتيجيا، كما في اليوميات.
تجارب الرؤساء الإيرانيّين
الشيخ حسن روحاني والسيد محمد خاتمي وحتى المتطرّف محمود أحمدي نجاد أثبتوا أنّ مؤسسة الرئاسة الإيرانية بلا فاعلية، قياساً إلى الحرس الثوري والمرشد. محاولات هاشمي رفسنجاني رئيساً للجمهورية ثمّ لمصلحة تشخيص النظام، كانت بالغة الدلالة على من هو الحاكم الفعلي في الجمهورية الفارسية. كلّ هؤلاء حاولوا خلق استقرار ما مع المملكة العربية السعودية التي زاروها وأغدقوا الوعود بتحقيق “سلم” واحترام سيادة الدول. لكنّ شيئاً لم يتحقّق. روحاني ومعه وزير خارجيته جواد ظريف حاولا إعادة الوصل مع العالم، لكنّ قرار الخامنئي ومعه “حرسه الثوري” كان المضيّ في تصديع العالم العربي.
الأصدق إنباء في معاينة إيران هو قراءة تاريخها. الشاه لم يكن أقلّ سوءاً يوم راح يتوسّع في الخليج بعد الانسحاب البريطاني. الفاقع كان في سعي الخميني إلى السيطرة والتدخّل في مكة. عندما لم يفلح عام 1986 استدار ليمسك القضية الفلسطينية المرمية على الأرض العربية معلناً يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان “يوماً للقدس”. وريثه الخامنئي لم يكن أقلّ فظاظة يوم وعد “المؤمنين” باسترجاع أرض الحرمين.
إيران لم تترك سبيلاً إلا وسلكته لتصديع الدول على أساس مذهبي وأقلّوي، والأمثلة تشمل لبنان، سوريا، العراق، واليمن
مستودعات أسلحة وميليشيات
إسرائيل لم تتغيّر منذ نشأتها حتى أواخر عشرينيات القرن الحالي. ازدادت عدوانية وتعصّباً مجنوناً بعدما أُقرّ قانون “دولة الأمّة اليهودية”. إيران باقية أيضاً على حالها ما لم تسحب قواتها وتوقف تدخّلاتها وتتنبّه إلى مذهبيّتها ومراعاة الأقلّية. وسيبقى اسمها دولة احتلال ما لم تعترف بالأحواز ولم تنسحب من الجزر الإماراتية الثلاث.
في وضع كهذا يبقى أنّ أسوأ الأسوأ هو الركون إلى إسرائيل وإيران في صنع استقرار المنطقة العربية. هذه مسؤولية الدول العربية قبل أن تكون مسؤولية الدول الكبرى.
“الإبراهيمية” والتطبيع لم يقدّما شيئاً في وقف تحويل إسرائيل إلى مستودع أسلحة. أمّا إيران فلن تتخلّى عن “استثماراتها الأمنية والعسكرية” في الميليشيات منذ ثمانينيات القرن الماضي يوم أنشأت أول معسكر تدريب في لبنان العربي الهويّة والانتماء.
للعلم الديانة الإبراهيمية هي التي أقرّت لليهود بحقّهم بالأرض الفلسطينية.
انتفاضة الشعبين
الخبر السارّ الوحيد عن الدولتين هو تحرّك الرأي العامّ في داخلهما ضدّ سياسات النظامين للمطالبة بدولة حقيقية. وحده الرأي العام قادر على إحداث تغيير فعليّ يضبط أخطار هاتين الرقعتين الجغرافيّتين.
إقرأ أيضاً: بماذا يعدنا رجال الدنيا والدين؟
الرأي العام الإسرائيلي مدعوّ للتمسّك بالقضاء المستقلّ والدولة الحديثة التي تحكمها أيضاً القوانين الدولية، فهما اللذان يوقفان آلة الموت المُسلّطة على الفلسطينيين. وكما تحرّك من أجل الانسحاب من غزّة وجنين وأجزاء من الضفة إثر الانتفاضة الأولى، صار مأمولاً منه أن يقرّ بحقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته.
أمّا الرأي العامّ الإيراني الذي انطلق في أروع ثورة: “المرأة، الحياة، الحرّية”، فإنّ الآمال معقودة عليه لتحطيم النظام القائم الذي استثمر طويلاً في طغيان تخلّف “العمائم”، ولإعادة إيران إلى إيران وبشروط الدولة الحديثة.
من دون ذلك سيبقى العيش بين هاتين الدولتين مشقّةً ما بعدها مشقّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@