راقبت أطراف الصراع في السودان الساعات العصيبة في روسيا قبل أيام باهتمام وقلق. موسكو لاعب أساسي في البلد وقوات فاغنر الناشطة المتدخّلة في شؤون دول إفريقية عديدة تدلي بدلو عسكري يتلاعب بموازين القوى بين المتقاتلين في السودان. وإذا ما وُصفت فاغنر بأنّها ميليشيات من المرتزقة متعدّدة الجنسيّات تنفّذ أجندات الكرملين، فإنّها في خياراتها السودانية تدكّ مفهوم الدولة في السودان وتزلزل وحدة البلد برمّته على نحو غير مسبوق في تاريخ هذا البلد.
الصراع المستمرّ
لم يهدأ الصراع الداخلي في السودان منذ استقلاله عام 1956. أخذ أشكالاً تقليدية في التنافس على السلطة بين أجنحة النظام السياسي تارة، أو عبر الانقلابات العسكرية تارة أخرى، أو من خلال حروب الأطراف مرّات عديدة. وعلى الرغم من التركيبة الفسيفسائية المعقّدة للمجتمع السوداني، فإنّ خرائط الصراعات بقيت مفهومة يسهل رصدها وملاحظة اصطفافاتها. لكنّ صراع هذه الأيام لا يشبه أيّ صراع سوداني سابق.
يروي لي أحد المتحدّرين من دارفور مظلوميّة مفادها أنّ الحروب الدموية التي شهدها الإقليم غرب السودان سبّبت كارثة للدارفوريّين لم يشعر بها أهل الخرطوم مثلاً، وأنّ حروب الأطراف التي كانت همّاً لأيّ حكومة لم تكن همّاً لسكّان العاصمة ومناطق شتّى في البلد المترامي الأطراف. وعلى هذا فإنّ الصراع الراهن، الذي تدفع الخرطوم ثمناً دموياً أساسياً بسببه، هو سابقة في تاريخ الصراعات، وهو يمسّ بسبب طابعه المركزي وجود البلد نفسه ويهدّد بانفراط عقده.
تشعر كلّ أطراف السودان الفاعلة، التقليدية المعروفة والمستجدّة، هذه الحقيقة. تعرف أيضاً أنّ احتمالات التفتّت والانفصال والتقسيم باتت أكثر من واردة
تشعر كلّ أطراف السودان الفاعلة، التقليدية المعروفة والمستجدّة، هذه الحقيقة. تعرف أيضاً أنّ احتمالات التفتّت والانفصال والتقسيم باتت أكثر من واردة، وأنّه إذا ما هيمن يأسٌ على إمكان المحافظة على البلد موحّداً بعدما فقد شطره الجنوبي في استفتاء عام 2011، فعليها أن تكون متموضعة وجاهزة للحضور داخل خرائط السودان المقبلة. وفي السودان من يتأمّل نزوع البلد نحو اللادولة على نحو ما حصل في مراحل متفاوتة وبدرجات مختلفة في ليبيا واليمن ولبنان وسوريا والعراق فيرى في الأمر نذير شؤم في البلاد.
ينهل الصراع السوداني الراهن تعقّده من أنّه ليس بين سلطة ومعارضة، وليس بين مركز وأطراف بالمعنى الكلاسيكي. ولا تقوم حقيقة الصراع، كما يحلو للبعض الترويج، على أساس أيديولوجي أو مفاهيم قيميّة تطاول مسائل العدل والحكم المدني، وإن كانت تتمّ إثارتها وفق معادلة كلام حقّ يُراد به تسويق باطل الحرب بالوعد بـ “الدولة الفاضلة” الموعودة. وبالمحصّلة هو صراع سلطة بين أركانها يستدرج البلد برمّته.
الانهيار الفاضح
يكشف الصراع سوداناً متعدّد الطبقات. يفضح صدام الطبقة الأولى بين العسكريين الذين حكموا حقبة ما بعد إزاحة الرئيس عمر حسن البشير الطبقات التالية وما أكثرها. بعض تلك الطبقات معروفة وبرزت وراجت مع الصراعات المتتالية، لكنّ بعضها الآخر تدفعها “المذبحة” الحالية إلى الظهور. ومن الحريّ هنا مراقبة موقف الفصائل المسلّحة وقادتها، سواء في اصطناع النأي بالنفس (مني أركو مناوي مثالاً) عن صراع “عسكر البشير” برأسَيْ قائد مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وقائد قوات التدخّل السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أو في التحرّك نحو الانفصال النهائي على النحو الذي يسلكه فصيل الحركة الشعبية-قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو.
اللافت أنّه منذ الأيام الأولى للصراع انكشف انهيار داخلي فاضح وعجز عن اجتراح آليّات حلّ بيتيّة تحتوي الحرب وتفرض ضوابط أخلاقية لها. انفضح خواء الهيكل السياسي التاريخي للبلد وضمور الدولة العميقة وشلل الأحزاب العريقة والتشكّلات الحديثة أمام مقتلةٍ كان يُفترض أنّها متوقّعة ويمكن تجنّبها.
اللافت أيضاً أنّه منذ الأيام الأولى للصراع كان الحضور الإقليمي والدولي وازناً حيويّاً طاغياً يقرأ الصراع بحذر وتأنٍّ ويخفي تموضعاً يشبه ذلك الذي أجرته الأطراف الداخلية استعداداً لخرائط سودان آخر. بدا أنّ جهوداً عربية إفريقية دولية وأممية قد تآلفت وتعاونت لإجلاء المواطنين الأجانب والدعوة إلى السلم والحوار والتفاهم، غير أنّ أجنداتها تُظهر تفرّقاً وتمايزاً وتناقضاً في بعض الأحيان بما ينذر بصراع قوى ومصالح كبرى بشأن السودان.
الصراع الدوليّ حاضر بقوّة
لا يمكن إخراج صراع السودانيين من خرائط الصراعات الدولية الكبيرة. بعضها يتعلّق بالمنافسة الغربية الروسية الصينية في العالم وامتدادات ذلك إفريقيّاً، وبعضها الآخر يرتبط بالامتدادات القبَلية للصراع باتجاه قبائل دول الجوار، وبعض ثالث يتوجّس من عدوى مصير السودان وفقدان دولته ووحدته على القارّة برمّتها. والواضح أنّ السودان القديم قد انتهى، حتى لو مُرّرت فيه تسوية تخديريّة ما، وأن لا استشراف موضوعيّ لمآلاته.
قبل أيام ظهر عضو مجلس السيادة السوداني الفريق أول ياسر العطا في فيديو يحذّر من “مؤامرة” الخارج. استهجن ما يصدر من دعوة “الجانبين أو الجنرالين أو القائدين أو طرفَي النزاع”. قال العطا إنّه لا وجود لطرفَي صراع ولا وجود لقائدين، وإنّ “هناك قائداً واحداً هو عبد الفتاح البرهان، ويأتي بعده نائب القائد العام ثمّ رئيس أركان الجيش السوداني.. إلخ وفق تراتبية واضحة”. وبغضّ النظر عن المضمون التعبوي لخطاب يلقيه أمام تشكيل عسكري، فإنّ الأمر يكشف أيضاً قلق الجيش من موقف خارجي لا يلاقي الرواية الرسمية التي ما يزال يعتبرها واحدة من روايات كثيرة ويستمرّ بالتواصل مع “حميدتي” الطرف الآخر للصراع.
قبل أيام أيضاً أعلن نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، مالك عقار، من القاهرة رفض أيّة مبادرة تنصّ على التدخّل العسكري الخارجي في السودان. وفي القراءة تخوُّف من سقوط السيادة بدعوى الحرص على سلمه.
إذا ما فقد المركز في السودان حصانة الخارج، فإنّ في ذلك أعراض قبولٍ بالاحتمال التفتيتيّ التقسيميّ بما يُفقد الوحدة السودانية زخمها وضروراتها، وبما يُسهّل اعتبارها سبباً لكلّ الحروب التي عرفها البلد على مدى عقود. وبغضّ النظر عن أجندة فاغنر الروسية، فإنّ أجندات كلّ الخارج لا تصون مسار الدولة وتتحرّى بدائل قد تفرض مروراً بمرحلة اللادولة.
إقرأ أيضاً: السودان: صراع “عسكر البشير”!
لئن تصطدم سلطة الجيش بمنظمّة الأمم المتحدة وممثّلها في السودان فولكر بيرتس وبآليّة “الإيغاد” ورئاسة كينيا لها، فإنّ غياب الحزم والحسم في بلورة موقف دولي ذي مصداقية لصالح كينونة البلد وسيادته ووحدته يوفّر أسباباً لنشوء حروب أهلية يعتقد أصحابها أنّهم يحظون بالتفهّم وربّما الرعاية من الخارج، أو يستنتجون من تناقض أطراف هذا الخارج ما يتيح تسريب دول وأوطان وكيانات في زمن التحوّلات الدولية الكبرى.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@