سيعيش لبنان لأسابيع مقبلة على وقع أجندة جان إيف لودريان المبعوث الشخصي للرئيس إيمانويل ماكرون إلى لبنان، ليس بسبب ما يحمله من مبادرات، وهو قد أعلن أنّه بصدد الاستماع إلى مختلف الجهات السياسية لا أكثر، بل بسبب حيويّة شكليّة يحتاج إليها المشهد السياسي اللبناني المحكوم بعقم مزمن ويتوسّلها سياسيون هجروا المشهد الوطني نحو حالات من الانعزال الطائفي/الأيديولوجي ببعدَيْه المحلّي والإقليمي.
يبدو وصول المبعوث الفرنسي إلى بيروت، بعد جلسة تحديد الأحجام التي عقدها البرلمان اللبناني في الرابع عشر من الشهر الحالي وبعد لقاء باريس بين الرئيس الفرنسي ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مدروساً في التوقيت لاستدراك تصعيد سياسي أوشك أن ينطلق على خلفيّة ما شاب تلك الجلسة من مفاجآت وممارسات غير دستورية. الأفق المسدود لمهمّة لودريان ارتسم قبيل وصوله عبر الجهود التي بذلها الرئيس نبيه برّي لتقليص الفارق بين سليمان فرنجية وجهاد أزعور، وإنتاج ما أمكن من توازن بينهما يفضي إلى إبقاء فرنجية مرشّحاً يمكن التمسّك به أمام الوسيط الفرنسي. وقد يكون في إحجام بعض النواب عن التصويت لأزعور استهابةٌ للذهاب بالمواجهة حتى النهاية مع توسيع الفارق بشكل أكبر لصالح أزعور، واختيار الانضمام إلى مسيرة البحث عن رئيس توافقي يوافق عليه الحزب. وبهذا لا تبدو مشجّعةً فرصُ نجاح لودريان في جمع السياسيين إلى طاولة واحدة وإقناعهم بالخروج من المواجهة.
يبدو أنّ فرنسا-ماكرون، التي تحاول التوصّل إلى تسوية تنحصر مفاعيلها بتركيبة سياسية لتوزيع مواقع السلطة، لا تفقه حقيقة الانقسام اللبناني الحاصل الذي يخاطب قلقاً وجوديّاً لدى الطوائف اللبنانية
“الجهل” الماكرونيّ
تريد باريس من خلال لودريان إعادة تأكيد التزامها بملفّ تخلّى عنه كثيرون. في 6 شباط المنصرم، اجتمع دبلوماسيون من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر في باريس لإطلاق إجراءات منسّقة لإنهاء الشغور الرئاسي في لبنان، ومنذ ذلك الحين ثابرت فرنسا على موقفها الداعم لسليمان فرنجية على الرغم من التساؤلات الكثيرة التي أثارها هذا الموقف.
يبدو أنّ فرنسا-ماكرون، التي تحاول التوصّل إلى تسوية تنحصر مفاعيلها بتركيبة سياسية لتوزيع مواقع السلطة، لا تفقه حقيقة الانقسام اللبناني الحاصل الذي يخاطب قلقاً وجوديّاً لدى الطوائف اللبنانية، والذي لا تُجدي معه توليفة تجمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة كنموذج سليمان فرنجية – نواف سلام، أو الاتفاق على بعض التعيينات في المواقع الحسّاسة كقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان وسواهما، بما يستعيد اتّفاق الدوحة في الشكل مع تطوير المضمون.
لم تعُد كلّ تلك العروض ترقى إلى مستوى الإجابة على حقيقة الصراع القائم، وهي أقلّ بكثير ممّا يرومه الحزب من خلال تمسّكه المتعنّت بسليمان فرنجية، وهي تفسّر التزام الرئيس برّي بموقف الحزب الذي يريد الذهاب إلى أبعد من إيجاد مخرج للأزمة الرئاسية.
هناك اختلاف كبير في الظروف الموضوعية التي أدّت إلى اتّفاق الدوحة والأهداف السياسية التي أراد الحزب وحلفاؤه تحقيقها في حينه، وبين تلك المحيطة بالأزمة الحالية والأهداف الجديدة التي لا يمكن اختصارها برئيس للجمهورية “لا يطعن المقاومة في ظهرها”.
لقد هدفت تسوية الدوحة إلى تعطيل الإنجازات والمكاسب السياسية التي تحقّقت بعد خروج الجيش السوري من لبنان، ومنها نتائج انتخابات 2005 التي أدّت إلى أكثرية برلمانية سيادية وإلى تشكيل حكومة وطنية تعاملت بكفاءة مع العدوان الإسرائيلي، ولقّبها الرئيس برّي في حينه بـ”حكومة المقاومة”، وتمكّنت من التصدّي للتهديد الإرهابي الذي نفّذته منظمة فتح الإسلام في مخيّم نهر البارد.
أمّا على المستوى السياسي فقد كان الهدف الأكبر الذي جمع الحزب بالتيار الوطني الحر بعد توقيع اتّفاق مار مخايل هو الانقضاض على ما سُمّي بـ”الحريريّة السياسية”. هذا التفاهم حاكى رواسب كيانية طائفية يختزنها العماد ميشال عون وطموحات أيديولوجيّة لدى الحزب مستمدّة من نظرية تصدير الثورة الإسلامية، ومن نظرة عدوانية للجمهورية الإسلامية إلى دول الخليج العربي في حينه. لهذا أتت نتائج اتّفاق الدوحة، التي أدخلت مفهوم الثلث المعطِّل إلى الحياة السياسية، لتشكّل مع جملة من المكاسب الوزارية والإدارية ما يكفي لتعطيل الحياة السياسية لمرحلة ما بعد الانسحاب السوري، وبلغت ذروة انتصاراتها بتعطيل الانتخابات الرئاسية وفرض العماد عون رئيساً للجمهورية.
ما يريده الحزب اليوم هو تحويل الاستحقاق الرئاسي إلى منصّة تحظى باهتمام دولي يراكم من خلالها مزيداً من المكتسبات السياسية ويحوّل ما حقّقه سابقاً إلى قواعد وأسس في نظام سياسي جديد يريد تبوُّؤه
ظروف “ما بعد الدوحة”
تختلف الظروف المحيطة حالياً بالشغور الرئاسي تماماً عن ظروف اتّفاق الدوحة. فقد أسقطت محاولاتُ إيران للخروج من العزلة الدولية نظريّةَ تصدير الثورة التي لا مكان لها في القاموس الصيني بشقَّيْه القيَميّ والاقتصادي. وكرّس الاتفاق السعودي الإيراني مرحلة جديدة في المنطقة عنوانها الاستثمار، لم يكن لإيران خيار سوى الالتحاق بها. وسقطت في الداخل الحريريّة السياسية ومعها أحاديّة الزعامة السنّيّة لصالح تعدّدية سياسية لم تتبلور بعد، وسقطت معها ضرورات الإبقاء على اتّفاق مار مخايل وتوفير الغطاء المسيحي لقوّة مذهبية قاهرة.
ما يريده الحزب اليوم هو تحويل الاستحقاق الرئاسي إلى منصّة تحظى باهتمام دولي يراكم من خلالها مزيداً من المكتسبات السياسية ويحوّل ما حقّقه سابقاً إلى قواعد وأسس في نظام سياسي جديد يريد تبوُّؤه بعدما تمرّس على قيادته من المقعد الخلفيّ عبر حزب مسلّح.
تكمن استحالة نجاح مهمّة لودريان في اقتصار تصوّرها للأزمة اللبنانية على مسألة توزيع مواقع السلطة ومغانمها بين فرقاء سياسيين، من دون الأخذ بعين الاعتبار الباطنيّة السياسية لدى المكوّنات الطائفية اللبنانية وموقع وهواجس كلّ منها عبر مراحل تشكُّل الكيان اللبناني. وهو ما لا يمكن “تقريشه” فرنسيّاً واستبداله بمكاسب سياسية أو مادّية.
إقرأ أيضاً: لودريان: الحوار الذي لم يطرحه واختلف عليه الجميع..
ما يحاول لودريان تسويقه مع استمرار تمسُّك باريس بسليمان فرنجية لا تقرأه الطوائف اللبنانية إلا كمشروع لذمّيّة سياسية تُعمّم على المكوّنات الطائفية في دولة يقودها الحزب. ويبدو أنّ فرنسا الحالية بحاجة إلى قراءة تاريخ الكيان المعقّد الذي أسّسته… بعقل جديد.
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات