شكّل الخلاف على تقديم الساعة “حدثاً نوعياً” لأنّه فتح نوافذ جديدة لتحليل الطائفية في لبنان، وبالتحديد السلوك الطائفي للجماعات الدينية اللبنانية.
أكدّ هذا الحدث “الكبير” استحالة فهم الوضع اللبناني من منظور سياسي واقتصادي وحسّي. فاستبعاد المنظور الاجتماعي يجعل فهم “الحالة اللبنانية” ناقصاً ومختلّاً. وهو ما حصل في الأزمة الأخيرة بدءاً من خريف عام 2019، إذ امتلأ الفضاء العام بالمحلّلين السياسيين والخبراء الاقتصاديين والناشطين التغييريين والثوريين (!)، ولم تحفّز الأزمة أبداً على تعميق فهمها من الناحية السوسيولوجية وحتى الأنتروبولوجية، في حال كان المراد فهماً حقيقياً لها.
يشير سلوك المسيحيين السياسي والاجتماعي الآن إلى أنّهم يريدون نقل نموذج الحكم الطائفي واللاديمقراطي، أو الذي يتحايل على الديمقراطية ويمنع شروطها، إلى نطاقهم الجغرافي الضيّق
تغيير اجتماعيّ
ذلك أنّ التغيير في لبنان ليس سياسياً وحسب، بل اجتماعي أيضاً. أو أقلّه لا يمكن فصل السياسي عن الاجتماعي في الواقع اللبناني، بغضّ النظر عن النقاش في المستوى الذي يُفترض أن ينطلق منه التغيير: هل يكون هذا المستوى سياسياً أم اجتماعياً أم بالتوازي بين الاثنين؟
الأخطر أنّ أزمة الساعة كشفت أنّ الاجتماع اللبناني أصبح بعد الأزمة أكثر احتواءً وقابلية لظواهر متطرّفة ممّا كان قبلها، بمعنى أنّ الأزمة الاقتصادية لم تخلق تحوّلات في أنماط التفكير الاجتماعية والسياسية السائدة باعتبار أنّ هذه الأنماط هي سبب رئيسي في الانهيار الحاصل، بل على العكس تماماً، خلقت الأزمة “ردّة” إلى الوراء في أنماط التفكير تلك، وأخرجت أسوأ ما فيها إلى العلن.
نقطة إيجابيّة
لكنّ النقطة “الإيجابية” في حادثة الساعة أنّها كشفت الواقع السياسي والاجتماعي في البلد على حقيقته من دون مواربة. وبالتالي أكّدت أنّنا ما زلنا في المربّع الأول وعلى نحو أسوأ ممّا قبل، وأنّ كلّ الكلام عن أنّ قطار التغيير انطلق منذ 17 تشرين 2019، وبالتحديد منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، هو كلامٌ يؤدّي إلى نتائج عكسية.
والحال فإنّ مشكلة الساعة كشفت انهيار العقد الاجتماعي في لبنان، والأخطر أنّها دلّت على أنّ الأزمة الاقتصادية لم تفتح الباب نحو عقد اجتماعي مختلف. أي أنّ الخلاف الطائفي حول الساعة أعلن سقوط العقد الاجتماعي الطائفي، في حين أنّ حجم الاعتراض على هذا الخلاف لم يظهر أنّ هناك “طبقة” اجتماعية مدنية وعلمانية تسمح بالقول إنّ العقد الاجتماعي العلماني ممكن في البلد.
تشدّد مسيحيّ
ما ظهر خلال الأيام القليلة الماضية، وخصوصاً من جهة الغالبية السياسية والاجتماعية المسيحية، أن لا استعداد طائفياً لإنقاذ العقد الاجتماعي الطائفي، الذي يقوم أساساً على حدّ أدنى من المراعاة الضمنية بين الطوائف. مع أنّ قرار عدم تقديم الساعة لم يصدر عن جهة دينية مسلمة. بل على العكس تماماً لم يُبدِ المسيحيون “المتديّنون” أيّ استعداد لمراعاة المسلمين في صيامهم إذا كان إبقاء التوقيت الشتوي أفضل لهم.
الأدبيات المسيحية التي رافقت الخلاف حول الساعة تفضح مرّة جديدة معنى “التغرّب” المسيحي بما هو “تغرّب” قشوريّ، أي مقتصر على القشور في بعض السلوكيات المعيشية ولا يصل إلى التماهي مع السلوكيات السياسية والاجتماعية والثقافية الغربية
دعكَ من أوهام الاتصال بالعالم وكأنّ تأخير الساعة أو تقديمها هو دليل ارتباط لبنان بالعالم من عدمه. فهذه ملهاة كبرى، إذ إنّ المسيحيين باعتراضهم على فكّ ارتباط لبنان بالعالم بسبب تأجيل التوقيت الصيفي، أظهروا أنّهم غير مرتبطين بالعالم بالمعنى الفعلي.
فهم لو اعترضوا على كيفية اتخاذ القرار بين الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي باعتبار أنّها تظهر خروجاً عن الأطر الدستورية لقرارات الدولة، لكان الأمر مبرّراً ومفهوماً ويظهر حرصاً “نوعياً” على ديمقراطية الدولة والفصل بين سلطاتها. لكن أن يأخذ اعتراضهم بسرعة منحى طائفياً، وأن تتدخّل فيه البطريركية المارونية على نحو مباشر وتعلن بنفسها بدء التوقيت الصيفي، فهذا ليس فيه شيء من الارتباط بالعالم، أي بالغرب في المضمر المسيحي. فالحداثة الغربية قامت على الفصل بين الديني والمدني، فهل تدخّل البطريركية على هذا النحو هو تماهٍ مع الحداثة الغربية؟
ثمّ ماذا كانت ستؤثّر ساعة إلى الأمام أو الوراء في بلد منهار كلبنان؟
لا شيء عملياً.
وأصلاً السياسيون والناس الذين ثارت ثائرتهم على فكّ لبنان عن العالم، فإنّ ارتباطهم بالعالم، كما يرونه من خلال السفر لقضاء العطل أو حتى لإنجاز الأعمال، هو في جزءٍ أساسي منه متأتٍّ من طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي عمّق التفاوت بين اللبنانيين إلى حدود غير مسبوقة. وذلك بخلاف أنظمة الحكم الغربية التي تقوم شرعيّتها على تقليص هذا التفاوت. وهو ما يمكن الاستدلال عليه ممّا يحصل في فرنسا الآن من معارضة لسياسات الرئيس إيمانويل ماكرون التي تريد فرض سنوات عمل إضافية فوق سنّ التقاعد.
فهل يسأل العامّة المسيحيون عن الفارق في نوعية الحياة بينهم وبين غالبية ممثّليهم السياسيين وحتى الروحيين؟ ليبدأوا بسؤال أنفسهم هذا السؤال، ثمّ ليعترضوا على تأجيل التوقيت الصيفي!
“تغرُّب” قشوريّ
لذلك فإنّ الأدبيات المسيحية التي رافقت الخلاف حول الساعة تفضح مرّة جديدة معنى “التغرّب” المسيحي بما هو “تغرّب” (نسبة إلى التماهي مع الغرب “المسيحي”) قشوريّ، أي مقتصر على القشور في بعض السلوكيات المعيشية ولا يصل إلى التماهي مع السلوكيات السياسية والاجتماعية والثقافية الغربية. وهذا وهم مسيحي يتيحه تسامح المسلمين معه، باعتبار أنّه وهمٌ غير مفكّك تماماً.
لكنّ هذا الوهم المسيحي التاريخي يرتبط أصلاً بنظرة المسيحيين المركّبة إلى أنفسهم لناحية هويّتهم الإثنية والحضارية. فهم مثلاً يتعاملون مع لغتهم الطقسية السريانية كما لو كانت السريانية إثنية، بينما هناك عائلات منهم عربٌ أقحاح. كذلك هم ينسبون أنفسهم إلى الفينيقيين وكأنّ المسيحيين حصراً هم الفينيقيون التاريخيون!
التغيير في لبنان ليس سياسياً وحسب، بل اجتماعي أيضاً. أو أقلّه لا يمكن فصل السياسي عن الاجتماعي في الواقع اللبناني، بغضّ النظر عن النقاش في المستوى الذي يُفترض أن ينطلق منه التغيير
مشكلة المسيحيّين
الأهمّ كيف أكّدت حادثة الساعة أنّ مشكلة المسيحيين هي مع أنفسهم أوّلاً قبل أن تكون مع المسلمين، أو بالأحرى قبل أن تكون متأتّية من السلوك السياسي والاجتماعي للمسلمين.
كان مبرّر الاعتراض المسيحي على تماهي المسلمين مع الفلسطينيين في مطلع السبعينيات أنّ هذا التماهي يمسّ بسيادة الدولة. وهذا تبرير مفهومٌ ويمكن أن يُنظر إليه من باب حرص مسيحي على “حداثة” الدولة. وإن كان دخول المسيحيين في دورة العنف عام 1975 شكّل افتراقاً مفصليّاً عن فكرة الدولة الحديثة، أي عن “تغرّبهم”.
لكنّ شريحة واسعة من المسيحيين تساهلت طوال السنوات الماضية مع ضرب حزب الله عرض الحائط بسيادة الدولة وديمقراطيتها. وشاركت بقوّة أو تساهلت مع أنماط الحكم الفاسدة والمفسدة، وهي الآن تقيم القيامة على موضوع الساعة كما لو أنّه دليل على أنّ المسلمين يدفعون الدولة إلى التخلّف والرجعية، وهم جميعاً مسلمين ومسيحيين من أركان الحكم أسقطوا الدولة نفسها.
غير أنّ الأشكال التي اتّخذتها ردّة الفعل المسيحية على قرار برّي – ميقاتي أثبتت أنّ المسيحيين قطعوا شوطاً متقدّماً في الانفصال عن الغرب!
كلّ ذلك لا ينكر وجود مشكلة عميقة في البلد على مستوى العقد الاجتماعي وتمثّلاته في نموذج الحكم. لكن أيضاً لا يمكن إنكار وجود مشكلة مسيحية تعبّر عن نفسها بوجوه شتّى، ويبرز سؤال عن كيفية توصيف المسيحيين لمشكلتهم، والحلول التي يطرحونها لحلّ هذه المشكلة.
الطرح الأكثر رواجاً الآن هو الفدرالية بمسمّياتها المختلفة. وهو طرح يأخذ أشكالاً هزلية أكثر فأكثر، لكن لا يمكن التعاطي معه على هذا النحو لأنّه يعبّر أساساً عن مشكلة مسيحية عميقة، أي عن شعور عام بالخوف على المستقبل، ولا سيما بعد الانهيار الحاصل.
مراجعة نقديّة
لكن إذا كان المسيحيون يريدون فعلاً البقاء في البلد جيلاً بعد جيل، فعليهم أن يفكّروا بطريقة أكثر عمقاً وجدّية، وأن يقبلوا بمراجعة نقدية لتاريخهم عوض الاستمرار في طرح سردية أسطورية ومغلوطة عن وجودهم التاريخي.
الارتباط بالعالم (الغرب) بالمعنى الفعلي معقّد وليس سهلاً، أخذاً في الاعتبار الاختلاف في البنى الاجتماعية والثقافية، تاريخياً، بين الشرق والغرب. لكنّ هذا الاختلاف الإشكالي لا يعني استبعاد نموذج الحكم الديمقراطي الذي يقوم أساساً على فصل الدين عن السياسة.
فهل المسيحيون مستعدّون فعلاً لنموذج الحكم هذا، وهم الذين ينادون بالارتباط بالعالم؟
يشير سلوك المسيحيين السياسي والاجتماعي الآن إلى أنّهم يريدون نقل نموذج الحكم الطائفي واللاديمقراطي، أو الذي يتحايل على الديمقراطية ويمنع شروطها، إلى نطاقهم الجغرافي الضيّق.
إقرأ أيضاً: الشاطر نجيب ميقاتي
فهم لا يبرّرون طرحهم للفدرالية على قاعدة استحالة التحديث والإصلاح في “لبنان الواحد”، وإنّما المبرّر هو شعورهم بتراجع قوّتهم في الصراع على السلطة ولو في ظلّ نموذج الحكم المتخلّف نفسه.
هذا أيضاً افتراقٌ كبير عن التوقيت العالمي. وللتأكّد أكثر تكفي الإطلالة على ما يحصل في إسرائيل حيث يصبح الانقسام بين العلمانيين و”الدينيين” راديكالياً أكثر فأكثر. هناك يمكن الحديث عن انقسام حول “التوقيت العالمي”، أمّا في لبنان فالأمر غير ممكن حتّى الآن. هذا بغضّ النظر عن إشكاليات الديمقراطية الإسرائيلية ما دامت إسرائيل دولة احتلال تمارس سياسات عنصرية ضدّ الفلسطينيين.