لم يعد سرّاً أنّ الفراغ الرئاسي صار واقعاً لبنانياً في ضوء إصرار “حزب الله”، ومن خلفه إيران، على خيار انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة. يعكس الإصرار الإيراني على مثل هذا الخيار، الذي ما زالت تروّج له فرنسا ويرفضه معظم العرب، رغبة في تأكيد أنّ لبنان صار يدور في فلك “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة فيه. كذلك، تقرّر إيران من هو رئيس مجلس النواب (الشيعي) وتستطيع إسقاط الحكومة ورئيسها متى تشاء. بكلام أوضح، بات الهامش الضيّق الذي يمتلكه رئيس مجلس الوزراء (السنّيّ) يعتمد على ما تسمح به إيران.
لبنان نسخة 2023
هذا هو لبنان، نسخة 2023، لبنان الذي يحتلّ المرتبة ما قبل الأخيرة في قائمة سعادة الشعوب في العالم. لم يعد أمامه غير التفوّق على أفغانستان التي تحكمها “طالبان” كي يكون في المرتبة الأخيرة من دون منافس. لم يعد تحقيق مثل هذا الإنجاز، إنجاز احتلال المرتبة الأخيرة في قائمة سعادة الشعوب، مستبعداً مع وجود مثل هذا الإصرار على تكريس لبنان مستعمرة إيرانيّة لا كهرباء فيها، فيما عملتها الوطنيّة في مهبّ الريح.
يتقدّم لبنان بثبات نحو مزيد من الانهيار الذي سيؤدّي إلى زواله في ظلّ هيمنة الشيعيّة السياسيّة عليه بغطاء إيراني مكشوف
يتقدّم لبنان بثبات نحو مزيد من الانهيار الذي سيؤدّي إلى زواله في ظلّ هيمنة الشيعيّة السياسيّة عليه بغطاء إيراني مكشوف. تختزل الهدف الإيراني في لبنان المطالب الثلاثة التي قدّمها المسؤولون الإيرانيون لسعد الحريري عندما زار طهران في تشرين الثاني من عام 2010. لم يتغيّر شيء في هذه المطالب التي تتلخّص بالسماح للإيرانيين بدخول لبنان من دون تأشيرة أولاً، وتوقيع لبنان معاهدة دفاع مشترك مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” ثانياً، والسماح بدخول إيران النظام المصرفي ثالثاً. عفواً، بين خريف 2010 وشتاء 2023، تغيّر النظام المصرفي اللبناني الذي لم يعد له وجود نتيجة عوامل عدّة. بين هذه العوامل الحرب التي شنّها “حزب الله” على المصارف اللبنانيّة بطريقة ممنهجة تحت شعار أنّ النظام اللبناني هو “نظام المصرف”.
كان رفض سعد الحريري تنفيذ المطلوب منه إيرانياً، بين أسباب إسقاط حكومته في كانون الثاني 2011 في أثناء لقاء بينه وبين الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض. لم يكن سعد الحريري وحده المستهدَف. كان المستهدَف موقع رئيس مجلس الوزراء، أي الموقع السنّيّ الأوّل في لبنان. كان إسقاط الحكومة وقتذاك رسالة وجّهتها طهران إلى واشنطن. فحوى الرسالة أنّ مصير لبنان حُسم نهائياً، وأنّ بيروت مدينة إيرانيّة على شاطئ المتوسط. ليس صدفة أن يوافق لبنان على ترسيم حدوده البحريّة مع إسرائيل قبيل خروج ميشال عون من قصر بعبدا في تشرين الأوّل 2022 بعد ضوء أخضر جاء من طهران!
إيران غير مرتاحة
الأكيد أنّ الوضع الإيراني الداخلي ليس مريحاً للنظام. لو كان هذا الوضع مريحاً ولم يكن النظام يواجه ثورة حقيقيّة تتميّز بأنّها ثورة على نار خفيفة، لما كان ممكناً التوصّل إلى البيان الثلاثي بين الصين والسعوديّة و”الجمهوريّة الإسلاميّة”. التزمت إيران في البيان “احترام سيادة الدول الأخرى وعدم التدخّل في شؤونها الداخليّة”. لكنّ الأكيد أيضاً أنّ إيران غير مستعدّة لأيّ تراجع في ما يخصّ لبنان.
يظلّ لبنان آخر مكان يمكن أن تقدّم فيه “الجمهوريّة الإسلاميّة” تنازلات. يعود ذلك بشكل خاص إلى أنّ لبنان هو المكان الذي حقّقت فيه “الثورة الإسلاميّة” أكبر نجاحاتها. استطاعت إيران في نهاية المطاف تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان. تسيطر على 27 نائباً شيعياً من أصل 27 في مجلس النواب. لا وجود لنائب واحد خارج سيطرتها كان يستطيع، على سبيل المثال، الترشّح لموقع رئيس مجلس النواب.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ سلسلة الانقلابات التي نفّذتها إيران، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، لم تتوَّج بتهميش دور رئيس مجلس الوزراء فحسب، بل توِّجت أيضاً بتحوّلها، بفضل ميشال عون وجبران باسيل، إلى الطرف الذي يحدّد للّبنانيين من هو رئيس جمهوريّتهم الماروني. حوّل “حزب الله”، في عهد ميشال عون الذي هو عهده، رئيس الجمهوريّة إلى شخص لا همّ له سوى الاعتداء على رئيس مجلس الوزراء وصلاحيّاته. فعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم كي يُظهر الصراع الداخلي اللبناني بأنّه صراع سنّيّ – مسيحي تحت لافتة “استعادة حقوق المسيحيين في لبنان… من أهل السُّنّة”.
أيام لبنان العصيبة
إنّها أيّام عصيبة يمرّ فيها لبنان في ظلّ افتقاده لقيادة سياسيّة تتمتّع بحدّ أدنى من الروح الوطنيّة من جهة، ورؤية واضحة لدى سياسيّيه من جهة أخرى. لا قيادة سياسية في بلد بات “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، مرجعيّته الأولى والأخيرة. لا رؤية لدى السياسيين كون معظم هؤلاء لا يدركون أنّ بلدهم صار تحت الاحتلال الإيراني منذ فترة طويلة…
إقرأ أيضاً: هل تغيّرت إيران؟
سيتوجّب على لبنان العيش طويلاً مع الفراغ الرئاسي، لا لشيء إلا لأنّ إيران تعتبر أنّ أيّ تراجع في ما يخصّ هذا الملفّ سيجرّ إلى تراجعات أخرى لا تريد السماع بها في لبنان على وجه التحديد. تستطيع “الجمهوريّة الإسلاميّة” تقديم تنازلات في اليمن التي تهمّ المملكة العربيّة السعوديّة. حصل ذلك في ملفّ تبادل الأسرى الذي شمل مواطنين سعوديين. لكنّ لبنان يظلّ موضوعاً آخر، لا لشيء إلّا لأنّه لم يعد يهمّ أحداً، بما في ذلك عرب الخليج وأميركا… إضافة، في طبيعة الحال، إلى أنّه الاستثمار الأكبر والأكثر نجاحاً في التدمير ونشر البؤس، خارج الحدود الإيرانيّة لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” منذ عام 1982.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@