أقرّت الحكومة الفرنسية قانون التقاعد الجديد بالقوة، فيما الغليان مستمرّ في الشارع الفرنسي رفضاً لرفع سنّ التقاعد عامين إضافيين من 62 إلى 64 سنة. وتجاوز الرئيس ماكرون صلاحيات حكومته والبرلمان، مستشرساً للوفاء بوعده إقرار القانون، ليدخل التاريخ ويتفوّق على العهود الرئاسية السابقة. لكنّ الخلافات كبيرة داخل مؤسّسات الحكم الفرنسية، إضافة إلى التباينات والانقسامات داخل الأحزاب وضياعها.
غليان الشارع الفرنسيّ
غضبت الشوارع الفرنسية وامتلأت بتسونامي من المواطنين المعترضين على تعديل سنّ التقاعد. وخرج الفرنسيون إلى الشوارع مردّدين عبارات السخط والتنديد، ومنها “من يزرع البؤس يحصد الغضب”. استقبل النواب رئيسة الحكومة بصيحات الاستهجان رافضين القانون. ورفع النواب المعارضون اللافتات تحت قبّة الجمعية الوطنية في مشهدية فرنسية غريبة من الهرج والمرج.
أقرّت الحكومة الفرنسية القانون الجديد وفق الصلاحيات التشريعية التنفيذية بمقتضى الفقرة 3 من المادة 49 من الدستور الفرنسي. وهي تجيز للحكومة صلاحيات تشريعية وتمرير القوانين من دون تصويت البرلمان عليها.
قد يضحّي ماكرون بمستقبله السياسي ويعرّضه للاهتزاز في سبيل إقرار نظام تقاعدي جديد وعصري يقوّض نموذج الحماية الاجتماعية
لا تحوز الحكومة الأكثرية على الرغم من مساعي التشبيك التي بذلتها لتأمين البيئة التشريعية الحاضنة لتمرير القانون الذي يؤيّده الجمهوريون. أمّا معارضو القانون فهم حزب اليمين المتطرّف، التجمّع الوطني، النواب المستقلّون وتحالف اليسار.
أجبر الانقسام داخل الحزب الجمهوري الحكومة على اتخاذ إجراء لم تكن تريده. وقد انقسم الحزب الجمهوري إلى جناحين:
-الأول معارض هو الجناح الوسطي الذي يرأسه برادييه.
-الثاني معتدل بقيادة رئيس الحزب الجمهوري إيريك سيوتي.
تنبّهت الحكومة لذلك، وعرفت أنّ القانون لن يمرّ في جلسة تشريعية طبيعية تعتمد التصويت في مجلس النواب، بعدما حسبت الأصوات مسبقاً. لذا صار الرئيس ماكرون وحكومته أمام خيارين اثنين:
1- الذهاب إلى التصويت الطبيعي في الجمعية الوطنية مع نتيجة غير محسومة، حيث لا توجد أكثرية تؤيّده.
2- تمرير القانون من خلال تجاوز البرلمان وفق ما تنصّ عليه الفقرة الثالثة من المادة 49 التي تتيح للحكومة الصلاحية التشريعية وإقرار القوانين.
اختارت الحكومة الخيار الثاني واستعملت صلاحياتها التشريعية. ووافق مجلس الشيوخ بأغلبية 193 صوتاً على القانون، وعارضه 114، وامتنع 38 منهم عن التصويت.
عمّت فرنسا فورة، وأثار التعديل لغطاً كبيراً في الأوساط السياسية والشعبية:
– اعتبرته مارين لوبين رئيسة كتلة نواب التجمّع الوطني اليميني “فشلاً ذريعاً أصاب رئيس الجمهورية والحكومة الفرنسية”.
– استهجنت الجمعية الوطنية القرار ولم تستسِغ تمريره رغماً عنها، واعتبرته عدم احترام لسلطتها وصلاحياتها التشريعية.
– اعتبرته المعارضة احتيالاً وإهانة للشعب، لأنّه يتحدّى أكثر من 40 مليون فرنسي، وحتى لو جرى إقراره بالشكل الطبيعي، أي عبر التصويت.
إجراءات سحب الثقة
لم تكن حكومة إليزابيت بورن الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية التي تقوم بهذا الإجراء. فحكومات كثيرة، ومنها يسارية، لجأت إليه. فقد استعملته حكومة ميشال روكار حوالي 28 مرّة بين عامي 1988 و1991.
يعتبر هذا القانون شرعياً بحكم الدستور الفرنسي. ويحوز المشروعية لأنّه لا يخالف الآليّات التنفيذية. وليس أمام المعارضة في البرلمان سوى العمل على سحب الثقة من الحكومة لإسقاطها وإلغاء القانون.
يواجه الرئيس الفرنسي 3 سيناريوهات، في حال سُحبت الثقة من الحكومة، وهي:
– تجديد الثقة برئيسة الحكومة الحالية إليزابيت بورن وتعيينها من جديد.
– تشكيل حكومة جديدة.
– حلّ الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية.
يتطلّب سحب الثقة من الحكومة الحصول على 287 صوتاً. وتعمل المعارضة على استنباط الحلول القانونية لتحقيق ذلك، فقدّمت اقتراح سحب الثقة من خلال التوقيع على عرائض موحّدة ومذكّرات حزبية فردية تمهيداً لمناقشتها في الجمعية الوطنية.
يحاول الرئيس ماكرون الاستشراس ودخول التاريخ. يريد أن يسجّل تفوّقه على كلّ الرؤساء في الجمهورية الخامسة
يُعتبر إسقاط الحكومة حسب المادة 50 من الدستور الفرنسي أمراً صعباً. فالمعارضة لا تملك “الرقم الذهبي” الذي يسقط الحكومة بحجب الثقة عنها. لذا تسعى المعارضة من اليمين واليسار إلى إقناع الجمهوريين ويمين الوسط وبعض المستقلّين بالتعاون على سحب الثقة. مع ذلك يرفض حتى الآن إيريك سيوتي رئيس كتلة الجمهوريين المشاركة في إجراءات سحب الثقة كي لا يوجّه ضربة قاسية للديمقراطية والمؤسسات الكلاسيكية الفرنسية.
سنة 1962 حصلت سابقة سحب الثقة من الحكومة مرّة واحدة في تاريخ الجمهورية الخامسة. حينها استقالت حكومة جورج بومبيدو نتيجة تصويت 280 معارضاً لها في البرلمان. وحلّ على أثرها رئيس الجمهورية آنذاك الجنرال ديغول الجمعية الوطنية (البرلمان). وهذا ما لمّح إليه الرئيس إيمانويل ماكرون.
لقد وضع ماكرون مستقبله السياسي على المحكّ لتمرير هذا القانون. فتمسّك به على الرغم من المعارضة الشرسة. ويعتبر فرنسيون كثيرون أنّ الإجراء “ليبرالي أيديولوجي” لا يخدم سوى جماعة النخبة من أصحاب الصناعات والشركات والمؤسسات والمصالح النخبوية.
ماكرون المختلف
يحاول الرئيس ماكرون الاستشراس ودخول التاريخ. يريد أن يسجّل تفوّقه على كلّ الرؤساء في الجمهورية الخامسة. لقد سعى معظم رؤساء الجمهورية المتعاقبين على الإليزيه وعلى مدى السنوات الأربعين الماضية إلى إجراء تغييرات في قوانين التقاعد. اصطدمت كلّها بغضب الشارع وانعكست سلباً في صناديق الاقتراع. وهذا حمل رؤساء مثل جاك شيراك ونيكولا ساركوزي على التراجع عن هذه المشاريع أمام الرفض القوي لها، وذلك حفاظاً على مستقبلهما السياسي ومصلحتهما الانتخابية.
أظهرت التجربة اختلاف الرئيس ماكرون في مقاربته الواقع. لقد تحرّر من الضغط الانتخابي والشعبي في ولايته الرئاسية الثانية والنهائية. فالدستور لا يسمح له بالترشّح لولاية ثالثة. وليس من تهديد له على الرغم من حساسية ولايته الحالية.
إقرأ أيضاً: ماكرون بنسخته “اللُبنانيّة”.. هل يَهزم شعبَه؟
إذا توحّدت المعارضة فإنّ أقصى ما يمكن أن تنجح فيه هو سحب الثقة وإسقاط الحكومة. وهنالك استحالة سحب الثقة من رئيس الدولة المنتخب من الشعب. لذا قد يضحّي ماكرون بمستقبله السياسي ويعرّضه للاهتزاز في سبيل إقرار نظام تقاعدي جديد وعصري يقوّض نموذج الحماية الاجتماعية. لقد أقرّ الرئيس ماكرون القانون الذي عجزت عن إقراره أهمّ العهود الرئاسية. وهو ليس بنادم. ويُعتبر تمسّك ماكرون بإصلاح خطير فاقد للإجماع مجازفة كبيرة.