ترحيب البيت الأبيض بالاتفاق السعودي الإيراني عبر وساطة صينية، لم ينجح في إخفاء القلق لدى شرائح عريضة من النخبة الأميركية، في أطر الحزبين الديمقراطي والجمهوري. انعكس ذلك في عدد من الكتابات الأميركية التي رأت أنّ الرعاية الصينية للاتفاق واستضافة بكين لمشهد المصافحة تحملان دلالات كبرى بشأن شكل النظام الدولي الجديد الناشىء والآخذ في التشكّل، بهدوء وربّما بعدم ثبات أيضاً.
أُبلغت أميركا بالاتفاق قبل 24 ساعة من حصوله، وفي هذا أمارة واضحة أنّ السعودية كحليف تاريخي لواشنطن تعمّدت أن تتصرّف خارج المتوقّع منها. أمّا الصين، الدولة المنافسة في الاقتصاد والتكنولوجيا وصاحبة النموذج المغاير تماماً للنموذج الليبرالي الغربي، فقد فاجأت أميركا حيث لم تحسب الأخيرة حساباً. أقلّه هذا ما يفصح عنه كلام الرئيس الأميركي جو بايدن السابق في الرياض، حين شدّد أنّ بلاده لن تذهب بعيداً وتترك فراغاً في الشرق الأوسط لتملأه الصين وروسيا، وإذ ذهب مَن ذهب إلى بكين واتّفقوا هناك!
أميركا تشكّل التحدّي الأكبر للصين، أو على الأقلّ هكذا يظنّ الرئيس الصيني الذي بدأ ولايته الثالثة للتوّ. وفي الوقت نفسه تشكّل الصين التحدّي الأكبر لأميركا ونموذجها وقيمها
ولكن مهلاً. أصِدقاً يحقّ لأميركا أن ترتاب من بروز الصين عبر أدوار وساطة انفرادية بدأت عبر الوساطة بين الرياض وطهران وتطمح إلى أن تتمدّد باتجاه وساطة بين موسكو وكييف؟ لنترك جانباً موضوع الوساطة الصينية في النزاع الروسي الأوكراني الذي يشكّل أكبر صدمة في الوجدان الغربي منذ الحرب العالمية الثانية.
عام 2016 أجرى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما حواراً مع رئيس تحرير مجلّة “ذي آتلانتيك” الصحافي جيفري غولدبرغ، تطرّق فيه إلى العلاقات السعودية الإيرانية، بعد نحو عام على انطلاق عاصفة الحزم السعودية في اليمن. قال أوباما: “إنّ المنافسة بين السعوديين والإيرانيين، التي ساعدت في تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن، تتطلّب منّا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، إنّهم بحاجة إلى إيجاد طريقة فعّالة لأن يتشاركوا العيش في هذه المنطقة وأن يقيموا بينهما نوعاً من السلام البارد”. أليس هذا ما يحصل الآن بين السعوديين والإيرانيين؟ هل يجوز القول إنّ الصين حقّقت توصية أوباميّة مزمنة؟
مسؤوليات الصين العالمية
النقطة الثانية التي يثيرها انقباض الكثير من الديمقراطيين والجمهوريين جرّاء مبادرة الوساطة الصينية، الناجحة حتى الآن، أنّ ثمّة طلباً أميركاً مزمناً يدعو الصين إلى الاضطلاع بمسؤوليّاتها كدولة عظمى في شؤون العالم لا أن تكتفي بحصد ثمرات الإدارة الأميركية للسلم والاستقرار العالميَّين وبأكلاف تدفعها وحدها. أليست وساطة الصين مساهمة واضحة وجليّة في التوصّل إلى ترتيبات سياسية من شأن استتبابها أن يحفظ الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط؟ ألا تشكّل الوساطة استجابة صينية للدعوة الأميركية لها إلى أن تضطلع بالمتوجّب عليها من مسؤوليّات كدولة عظمى؟
تبدو الوساطة الصينية وكأنّها تصيب عصفورين بحجر واحد.. وتستجيب لتوصيتين أميركيّتين، لا توصية واحدة، وهو ما يعزّز الاستغراب من ردّ الفعل الرسمي الحذر والردّ الأكثر وضوحاً في سلبيّته عند شرائح مهمّة من النخبة الأميركية.
حقيقة الأمر أنّ ردود الفعل الأميركية تفصح عن حجم الارتباك الذي يميّز السياسة الخارجية لواشنطن.
يعدّ الخطاب الذي ألقاه نائب وزير الخارجية روبرت ب. زوليك في أيلول 2005، وثيقة سياسية بالغة الأهمية بشأن تصوّر أميركي ما للعلاقات مع الصين. يعترف زوليك الذي كان بدأ حواراً استراتيجياً مع الصين، ببكين كقوّة ناشئة، ويدعوها في الخطاب إلى العمل كـ”صاحبة مصلحة ودولة مسؤولة”، ويحضّها على استخدام نفوذها لاستقطاب دول مثل السودان وكوريا الشمالية وإيران إلى النظام الدولي. ويعبِّر الخطاب عن مستوى من النضج الاستراتيجي الذي لم يعش طويلاً، لا سيما مع إعلان أوباما بعد ذلك سياسة “التوجّه شرقاً” التي عدّتها الصين استراتيجية مصمّمة لاحتواء صعودها والتأثير المباشر في مداها الآسيوي الحيوي.
ترحيب البيت الأبيض بالاتفاق السعودي الإيراني عبر وساطة صينية، لم ينجح في إخفاء القلق لدى شرائح عريضة من النخبة الأميركية، في أطر الحزبين الديمقراطي والجمهوري
استراتيجية أوباما الآسيوية
تمحورت استراتيجية أوباما حول تركيز الولايات المتحدة على منطقة آسيا والمحيط الهادئ بسبب أهميّتها الاقتصادية والاستراتيجية المتزايدة. وقامت على عدد من المرتكزات التي تشمل تعزيز التحالفات العسكرية والدبلوماسية مع حلفائها الإقليميين مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين، وتعزيز الوجود العسكري في آسيا كنشر قوات إضافية في أستراليا وزيادة الوجود البحري في بحر الصين الجنوبي، وتشجيع المنظمات والمنتديات الإقليمية مثل مجموعة “الآسيان” لتعزيز التعاون والأمن بين الدول الآسيوية، وأخيراً الاتفاقيات والشراكات التجارية التي سعت إليها الولايات المتحدة عبر المحيط الهادئ أو ما يعرف بـ(TPP)، وهي اتفاقية تجارية استبعدت الصين، ورأتها بكين تحدّياً اقتصادياً لنفوذها في المنطقة. عزّزت كلّ هذه العناصر إحساس الصين أنّ الاستراتيجية الأميركية تهدف أولاً وأخيراً إلى الحدّ من نفوذها، وفاقمت بالتالي من التوتّرات بين البلدين.
ثمّ جاءت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بسياسة حمائية عنيفة زادت حدّ التوتّر واستمرّت بها إدارة الرئيس بايدن بلا أيّ تغيير يذكر.
لا يخدم هذا السياق فكرة القبول بالشراكة الأميركية مع الصين، بل ينمّ عن موقف أميركي يهدف إلى ردع بكين وتحجيم دورها وإدانة نموذجها السياسي غير الليبرالي، وينطوي أيضاً على محاولة لتطويع الصين بحجّة إلزامها بأن تكون عضواً يلتزم قواعد المجتمع الدولي، التي هي قواعد تعتبرها الصين أميركية الهويّة ومصمّمة لخدمة المصالح الأميركية أوّلاً وقبل كلّ شيء.
وهو سياق للعلاقات الأميركية الصينية بات أقرب إلى منطق المواجهة منه إلى منطق الشراكة، لا بسبب مبادرة وساطة صينية، بل بسبب نجاح الصين في تحدّي فكرة النظام الليبرالي نفسها التي تربط بين الديمقراطية والنموّ، لتأتي الصين وتثبت أنّ التألّق الاقتصادي ممكن خارج بنية ومنظومة قيم النموذج الليبرالي.
أميركا تشكّل التحدّي الأكبر للصين، أو على الأقلّ هكذا يظنّ الرئيس الصيني الذي بدأ ولايته الثالثة للتوّ. وفي الوقت نفسه تشكّل الصين التحدّي الأكبر لأميركا ونموذجها وقيمها، أو هذا ما تظهره ردود الفعل الأميركية على الأقلّ حيال أيّ نجاح صيني.
إقرأ أيضاً: هل يتأقلم الحزب مع التحوّل الإيرانيّ؟
هنا مكمن الصراع الفعلي، وهنا تفسير ردّ الفعل على رعاية بكين للاتفاق السعودي الإيراني، الذي جاء كاشفاً لبعض ما يعتمل في قلب النظام العالمي من إعادة ترتيب للتوازنات.
الخوف كلّ الخوف، أن يكون ردّ الفعل الأميركي على استجابة الصين لدعوات الاضطلاع بنصيبها من المسؤولية العالمية، مقدّمةً لمزيد من اللاإستقرار في العالم، لا سبباً لتقاسم الأثمان بين جبّارين لهما مصلحة أكيدة في السلم والاستقرار. فبدل أن يكون “نجاح” واشنطن في جرّ الصين إلى “التورّط” في تحمّل مسؤولياتها كدولة عظمى، عنوان نجاح أميركي وسبباً للمزيد من الحوار مع بكين، سيجعله القلق والتوجّس الأميركيان عنواناً لمزيد من التوتّر في العلاقة الثنائية، وربّما مقدّمة لما هو أخطر من ذلك.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@