بات السؤال المطروح هو: “كيف سيتأقلم “حزب الله” مع الاتفاق السعودي – الإيراني؟”. من دون إغفال أنّ السؤال عينه مطروح على الفرقاء اللبنانيين كافّة حيال التطوّر الجوهري الذي بدأ مساره في 10 آذار من بكين. وينعكس ذلك في الآتي:
– قول الأمين العام للحزب إنّ الاتفاق “ممكن أن يفتح آفاقاً في المنطقة ومن جملتها في لبنان”.
– وقول نائبه الشيخ نعيم قاسم إنّ الاتفاق “بارقة أمل لتعاون دول المنطقة وأمنها وتطوير اقتصادها وتعزيز استقلالها وخياراتها الحرّة”.
لذا يحتاج الأمر إلى مقاربات جديدة مغايرة لمرحلة الصراع التي انخرط فيها حزب الله بالنيابة عن طهران.
بادرت طهران إلى تصعيد المواجهة ضدّ دول الخليج انطلاقاً من اليمن، ردّاً على توالي العقوبات الأميركية التي حاصرتها وضربت اقتصادها
إنكار خلفيّات اتّفاق بكين
القول إنّ “الاتفاق انتصار لإيران ولجميع حلفائها” و”ضربة قاضية لمشروع العداء لإيران”، يمثّل قمّة الإنكار للواقع الذي قاد إلى كلّ المفاوضات التي جرت على مراحل منذ عام 2019 بوساطة عراقية بدأت إبّان رئاسة عادل عبد المهدي للحكومة العراقية، وبناء على طلب إيراني، واستمرّت مع مصطفى الكاظمي وفي عُمان، وانتهت في بكين، بعد التصعيد الذي شهده الإقليم إثر إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلغاء الاتفاق النووي في أيار 2018.
بادرت طهران إلى تصعيد المواجهة ضدّ دول الخليج انطلاقاً من اليمن، ردّاً على توالي العقوبات الأميركية التي حاصرتها وضربت اقتصادها. وهي واجهت صموداً خليجياً بقيادة السعودية، التي واصلت خططها للنمو الاقتصادي والانفتاح، وأرادت من الاتفاق ضمان حمايتها. وهذا في ظلّ تقهقر إيران اقتصادياً ومتاعبها وخوفها من الاحتجاجات الداخلية التي تهدّد نظامها.
وإذا كان الإنكار يتمظهر في مواصلة الاختباء خلف الشعارات القديمة، لأنّ الوقت لم يسمح لحزب الله أن يتأقلم مع المصالحة الخاضعة للاختبارات خلال الشهرين المقبلين، يكون مفهوماً تنظيم بداية التراجع عن تورّط الحزب عينه في جرّ لبنان إلى المواجهة التي خاضتها طهران ضدّ دول الخليج ودول عربية عدّة. وتجلّى التراجع في اضطرار قيادة حزب الله إلى أن تعلن: “لم ننتقد يوماً إلَّا بعض السلوكيات والأعمال”، فيما كانت أدبيات هذه القيادة تبشّر بسقوط الحكم السعودي. فهي نظّمت صرخات وهتافات مناصريها ضدّ آل سعود، وما زالت أصداؤها ترنّ في آذان اللبنانيين، بمن فيهم جزء من بيئة الحزب الموالية. وكذلك العرب الذين هالهم توريط لبنان في مغامرات تناقض تكوينه.
أكثر من ذلك فقد “زايدت” قيادة حزب الله على القيادة الإيرانية في إنكارها مدى تأثير عامل الاعتراض الشعبي الداخلي في إيران، وعلى توجّه السلطة العليا فيها نحو المصالحة مع السعودية والخليج. فقلّل الحزب من شأن الانتفاضة الشعبية الداخلية الإيرانية عبر إقناع نفسه بخطاب قوة إيران وانتصاراتها الإقليمية، متجاهلاً مدى عمق التحوّلات في الرأي العام في بلاد فارس.
قد لا يعتبر البعض أنّ الظرف مناسب لتذكير حزب الله بمغالاته في جرّ لبنان إلى تلك المواجهة التي كان لها دور كبير في الكارثة التي يعيشها. هذا فيما اضطرّت طهران نفسها إلى القيام بخطوة إلى الوراء في عدائها للمحيط العربي. وفي لبنان سبق السيف العذل. فأضرار تلك السياسات قد وقعت، والوقت هو لإنقاذ ما بقي، ولإفساح المجال لقيادة حزب الله لمراجعة النهج الذي قاد البلد إلى الحفرة التي هوى إليها.
فشل تصدير الثورة
سعت القيادة الإيرانية إلى الاتفاق مع السعودية وتوسيع دائرة تفاهمها مع دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين بناء على المعطيات التالية:
– خفض خسائرها الناجمة عن استعدائها الدول العربية.
– تعثّر مشروعها التوسّعي، لأسباب دولية وإقليمية.
وهذا يجعل من غير المنطقي أن يحتفظ حزب الله بخطابه السابق في تبرير اضطراره إلى الانسجام مع الخطوة التي أقدمت عليها هذه القيادة. وقد يكون فائض القوة الذي يتمتّع به الحزب عينه في لبنان يدعوه إلى أن يتصرّف براحة مع الفرقاء اللبنانيين الآخرين، معرضاً عن تلقّف التحوّل الإقليمي الذي افتتح فصوله إعلان بكين. يدفعه إلى ذلك طموحه إلى الاحتفاظ بمكاسب حقّقها في المرحلة الماضية في السلطة وفي ميزان القوى المحلّي، على الرغم من اصطدامه بتركيبة لبنانية شديدة التعقيد، تجعل البلد عصيّاً على تكريس تفوّقه على سائر الأطياف السياسية بالسلاح وبزخم صعود قوة إقليمية اضطرّت إلى اعتماد البراغماتية والتنازل عن سياساتها العدائية للسعودية والدول الأخرى.
لى الحزب الاعتراف بأنّ انخراطه حتى أذنيه في نهج تصدير الثورة الإيرانية (الذي ينصّ عليه الدستور الإيراني في بند “نصرة المستضعفين أينما كانوا”) قاده إلى إخفاقات حمّلته مسؤولية الانهيار اللبناني
قد تساهم المراجعة المنتظرة من حزب الله في تصويب سياسة الاستدراك والتأقلم المجبر عليها. وكذلك سائر الفرقاء، بمن فيهم خصومه الذين عليهم العودة عن درجة من العدائية استخدموها لتخويف بيئته، من شركاء له في البلد، بأنّ إضعافه يساوي إضعاف الطائفة الشيعية في التركيبة اللبنانية.
في سياق المراجعة: على الحزب الاعتراف بأنّ انخراطه حتى أذنيه في نهج تصدير الثورة الإيرانية (الذي ينصّ عليه الدستور الإيراني في بند “نصرة المستضعفين أينما كانوا”) قاده إلى إخفاقات حمّلته مسؤولية الانهيار اللبناني. على الرغم من أنّ العديد من خصومه لم يتوانوا عن إبلاغ دول الغرب وأميركا بأنّ العقوبات عليه تؤذي سائر اللبنانيين. وثمّة من يقول إنّ بعض قيادة الحزب بدأ يسلّم بفشل نهج تصدير الثورة على الشكل الذي حصل.
تراجع فاعليّة التعبئة الدينيّة
من النقاط البارزة في أيّ مراجعة للمعركة الإقليمية الكبرى التي خاضتها طهران في الإقليم، والتحق بها حزب الله تحت شعار “تصدير الثورة”، أنّ البناء الإيديولوجي الذي استخدمه الحزب لتبرير انخراطه في العداء لدول عربية وإسلامية، اصطدم بوقائع الحياة اليومية، ولم يعد صالحاً لاستنفار الجمهور العريض الذي تناقصت حماسته حيال تضحيات تلك المعركة. فتسخير العقيدة الدينية لتسويغ هذه المعركة آل إلى الفشل في الداخل الإيراني نفسه. ذلك أنّ الاحتجاجات الشعبية، الشبابية والنسائية، التي استهدفت رجال الدين وهالة وليّ الفقيه منذ أيلول الماضي، كشفت مدى هشاشة أسلوب التعبئة هذا، قياساً إلى معاناة الإيرانيين من تدهور الاقتصاد وحياتهم اليومية منذ زهاء عقدين.
عزل الإيرانيين عن العالم، وتسخير ثروات بلادهم للمعارك الخارجية، مسّ شعور العزّة الوطنية المتأصّل لدى الجيل الإيراني الجديد، واستفزّ مناطق ومدناً لأسباب عرقية، على الرغم من قدرة النظام على الاحتماء بجزء من الجمهور الذي يستطيع استنفاره مستخدماً أفكاراً غيبية وأدبيات الانتصارات الإلهية. فهذه لم تعد تقنع قطاعاً واسعاً، حتى من الجمهور المؤمن في لبنان وإيران والعراق وسوريا واليمن.
هذا الجمهور يتوق إلى الخروج من الاختناق الاقتصادي ويتعطّش إلى خطاب التنمية والتطوّر السياسي والاقتصادي. والحالة الاقتصادية والاجتماعية البائسة في هذه البلدان زادت من صراع المواقع في السلطة. وقد يكون هذا ما عجّل في إقبال جناح فيها على الاتجاه نحو تسوية النزاع مع دول الخليج العربي.
فكيف الحال في لبنان حيث أسفر البناء الإيديولوجي للتعبئة عن تصاعد الحساسية السنّية – الشيعية، التي امتدّت إلى الطوائف الأخرى بفعل استخدام حزب الله العنف الدموي في مناسبات عدّة ضدّ خصومه على امتداد البلاد وفي بيئته، مستظلّاً ادّعاءات الخطاب التعبوي. وهذا ما قوّض اندفاعة الحزب نحو تعزيز نفوذه السياسي، وحصَرَه في بيئة محدودة، أخذت بدورها تضيق جرّاء الوضع المعيشي الكارثي.
الاتجاه شرقاً والموقع الإقليميّ
قام حزب الله بتعديل خجول في مقولة “الاتجاه شرقاً”، بعدما ثبت فشل الاعتماد على المساعدات الإيرانية في إنهاض الاقتصاد، وعلى استثمارات روسية وصينية وعد نفسه بها من دون تقدير مدى رغبة وقدرة المستثمرين في الإقبال على التوظيف في دولة لا يسود فيها الاستقرار. وها هو يروّج لمرشّحه الرئاسي باعتباره “منفتحاً على الخليج والعرب والغرب وكلّ الدول”. وهو يذكر الشرق رفعاً للعتب فحسب. وثبت كم هي مقولة “اقتصاد المقاومة التي تدير دولاً” قاصرة، بل أقرب إلى الوهم. أمّا فائض القوة فأظهر العجز الفاضح عن إدارة الوضع الاقتصادي اللبناني.
إقرأ أيضاً: بانتظار لغة الحزب.. الصينية
تبيّن أنّ نظرية الاتجاه شرقاً ليست حكراً على المنطق الجهادي في لعبة الدول الكبرى. فحسن إدارة تلك النظرية أنتج علاقات عربية وخليجية مع روسيا والصين، ذهب إليها أقدم حلفاء تاريخيّين لـ”الشيطان الأكبر” في المنطقة. وهذه حال السعودية والإمارات ومصر. بل إنّ خروج طهران من الحفرة الاقتصادية التي أوقعها حكّامها فيها، صار يحتاج إلى الاستثمارات السعودية والإماراتية. وهذه حال لبنان تماماً بعدما ساد في خطاب حزب الله الاعتقاد التبسيطي بأنّ لبنان ليس بحاجة إلى مساعدات أميركا ودول الخليج، وقادر على النهوض بمساعدة طهران!
أمّا تناول مدى استعداد الحزب عينه للتأقلم مع التوجّهات الإيرانية الجديدة، وتعويم علاقاته الداخلية بفرقاء ملأ الشاشات وأعمدة الصحف بتخوينهم بحجّة خدمتهم المشروع الأميركي – الإسرائيلي، ومدى انسجامه مع المرحلة الجديدة في معركة رئاسة الجمهورية وإعادة تكوين السلطة في لبنان، فله حديث آخر يطول ويشمل درجة الانفصام في سلوكه.