رحّبت الولايات المتحدة بـ”اتفاق بكين”. كانت واضحة بقولها إنّ “السعودية أبقت الأميركيين مطّلعين على جولات المناقشات مع إيران”. وقال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان: “تعزيز دور دول أخرى مثل الصين في تخفيف التوتّر، هو في جوهر المصالح الأميركية”. ويظلّ التساؤل الأميركي المعلن: “هل يحترم النظام الإيراني الاتفاقية؟”.
الحياد السعوديّ الإيجابيّ
انتهجت السعودية في سياستها الخارجية دوراً دولياً محورياً يرتكز على “الحياد الإيجابي”. كان هذا الدور واضحاً في الحرب الروسية – الأوكرانية. ونجحت الرياض في قضية تبادل الأسرى، فأشادت بها كييف وموسكو على حدّ سواء.
“الحياد الإيجابي” في صلب سياسة المملكة دولياً، لكن ليس ” على القطعة”، بل هو نهج في مختلف النزاعات.
بعد لحظات من توقيع الاتفاق، خرجت نظريّات مفادها انتقال السعودية من المحور الغربي (الأميركي – الأوروبي) إلى المحور المضادّ (الصيني – الروسي – الإيراني). لكنّ الأيام اللاحقة ستكون كفيلة بدحض هذه النظريات والادّعاءات. فبعد ساعات من الإعلان عن إنشاء أسطول جوّي سعودي جديد، خرج البيت الأبيض بتصريح قال فيه: “صفقتان تاريخيتان مع السعودية لتصنيع 121 طائرة بوينغ تقدّر قيمتها بنحو 37 مليار دولار، ضمن أبرز صفقات الطيران في 80 عاماً”.
أظهرت التجربة أنّ حجم التأثير الأميركي على إيران لردع ميليشياتها لم يوقف التهديدات. ولم يقدّم الجانب الأميركي أيّ ضمانات أمنية في حال تكرّر الاعتداء الإيراني على البنى التحتية السعودية واستهدف الآبار النفطية وتمديداتها
لهذا يمكن القول إنّ الاتفاق بين السعودية وإيران بـ”واسطة صينية” لا يستهدف الأميركيين، بل هو خيار لمصلحة السعوديين والمنطقة (إذا التزمت طهران).
لماذا بكين؟
أمّا التوصّل إلى الاتفاق في بكّين فله مسبّبات تراكمية:
– أولاً، الانتخابات الرئاسية الأميركية (كلّ أربع سنوات) قائمة أوّلاً على شؤون داخلية صرفة وتهمّ الناخب الأميركي، بخلاف السياسة الخارجية لأيّ حزب من الحزبين. فالسياسة الخارجية لأميركا تتأثّر بتغيّر الإدارة وتتبدّل أحياناً قبل الانتخابات النصفية. تترك هذه المتغيّرات آثارها على بلدان العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط: حيناً يعلنون أنّ التوجّه الجديد يقضي بالانسحاب من هذه المنطقة والتوجّه نحو تشديد التحالف مع اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والفليبين وفيتنام وإندونيسيا لمواجهة “خطر الصين وكوريا الشمالية”. وحيناً آخر يؤكّدون البقاء في المنطقة لأهميّتها الاستراتيجية. رقصة التانغو هذه تجعل دول المنطقة في حيرة من أمر التبدّلات الاستراتيجية. وهذا ما يحثّ الدول الفاعلة، كالمملكة العربية السعودية، على الاستمرار بتحالفها الأمني والعسكري مع الولايات المتحدة، إنّما إلى جانب التعاون مع غيرها في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار.
– ثانياً، أظهرت التجربة أنّ حجم التأثير الأميركي على إيران لردع ميليشياتها لم يوقف التهديدات. ولم يقدّم الجانب الأميركي أيّ ضمانات أمنية في حال تكرّر الاعتداء الإيراني على البنى التحتية السعودية واستهدف الآبار النفطية وتمديداتها، وكذلك الناقلات وإقفال المضائق. وقد تمنّعت واشنطن عن الضغط على الحوثي وإيران في اليمن لإلزامهما بتثبيت وقف النار والعودة إلى التفاوض لإيجاد حلّ سلمي يعزّز أمن اليمن واستقراره.
– ثالثاً، تستورد واشنطن 200 ألف برميل نفط يومياً من السعودية، أي أقلّ من نصف ما تستورده من كندا. في حين أنّ الصين تستورد من المملكة مليونَي برميل يومياً. وتشكّل مضائق باب المندب وهرمز والبحر الأحمر شرياناً مهمّاً لتجارتها الخارجية مع دول أوروبا. ولبكين استثمارات طويلة الأمد في طهران (لمدّة 25 عاماً وبقيمة 400 مليار دولار). وهذا يحثّ الصين على الحفاظ على أمن المنطقة والضغط على حكم الملالي ومنعه من إذكاء التوتّرات والنزاعات في دولها.
إقرأ أيضاً: الاتّفاق الإيرانيّ – السعوديّ: احذروا القراءة بالمقلوب!
– رابعاً، بعد عدّة جولات من التفاوض في العراق والأردن والصين، بطلب من النظام الإيراني، ردمت بكين الهوّة بين طهران والرياض بعدما حصل المفاوض السعودي على الضمانات الأساسية التي تتجاوز مسألة التبادل الدبلوماسي والبعثات الدبلوماسية والقنصلية إلى ما هو أوسع من العلاقات الشكلية. هذا فيما أعلنت الولايات المتحدة أنّها اطّلعت على المفاوضات الجارية “لأنّ المملكة كانت تضعها في أجواء مراحلها أوّلاً بأوّل”. واعتبرت واشنطن أنّ “الاتفاق يخفّف من توتّرات المنطقة ومن النزاعات”. وهذا يخفّف من مهامّ الأسطول الخامس ويتيح لأميركا التفرّغ لكلّ من أوكرانيا وتايوان وما يعتري بحر الصين الجنوبي من أزمات.
*كاتب لبناني مقيم في دبي
لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@