السعوديّة تختار بحرّيّة شركاءها الغربيّين والدوليّين

مدة القراءة 6 د

تعود الولايات المتّحدة إلى منطقة الشرق الأوسط عبر زيارات مكثّفة لمسؤوليها الذين يحاولون إنعاش ذاكرتهم بسرديات تاريخ تعاون بلدهم مع المنطقة. ويظهر أنّ دول المنطقة التي اعتمدت لسنوات طويلة استراتيجية الاحتماء بالولايات المتّحدة قد اكتسبت ما يكفي من المناعة لحماية مصالحها بقواها الذاتية وتحالفاتها الجديدة.

ابتدأ السلوك الأميركي الجديد بزيارة الرئيس الأميركي المملكة العربية السعودية في 16 تموز 2022 ومشاركته في قمّة جدّة للأمن والتنمية مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق. وفي تلك القمّة عبّرت واشنطن عن رغبتها في إعادة تقويم علاقاتها بالسعودية وتحالفاتها والدور الأميركي في المنطقة مستقبلاً.

وكانت سياسات القوى الغربية الكبرى، وفي مقدّمها الولايات المتّحدة الأميركية، قد فشلت خلال العقود الثلاثة الأخيرة في إسقاط أهمية منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجيّة التي فرضها موقعها الجغرافي والديمغرافي والقدرات الاقتصادية المتراكمة. ولم تنجح الاستراتيجيات الغربية في تهميش قوة المنطقة التي لطالما كانت قبلة أطماع الإمبراطوريات الكبرى القادمة من الغرب لفرض قيَمها وافتتاح أسواق لاقتصاداتها، والأخرى القادمة عبر المحيط الهندي أو من الشمال للوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على الممرّات المائية.

جاءت مواقف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في الأردن والعراق ومصر مطلع الأسبوع الحالي، لتؤكّد نتائج زيارة الرئيس بايدن المتمثّلة في شراكة الولايات المتّحدة الاستراتيجية مع المنطقة

لم يكن الغزو المذهبي الذي حملته الحركات الأصولية السنّيّة القادمة من مدارس آسيا الوسطى على أجنحة أجهزة الأمن الغربية، أو تلك الشيعية القادمة من طهران على صهوة ثورة إسلامية ترفع راية فلسطين، سوى أشكال جديدة لاستعمار مقنّع ابتكره العقل النظري الغربي ووجد بيئته الحاضنة في ميثولوجيا دينية موروثة لم تغادر أعماق اللاوعي الجماعي العربي.

 

عودة الغرب إلى الشرق الأوسط

جاءت مواقف وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في الأردن والعراق ومصر مطلع الأسبوع الحالي، لتؤكّد نتائج زيارة الرئيس بايدن المتمثّلة في شراكة الولايات المتّحدة الاستراتيجية مع المنطقة، لا سيما في مجالَي الأمن والدفاع. وذلك ما رشح عن لقاءات أوستن بكلّ من:

– الملك الأردني عبدالله الثاني.

– رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

– الرئيس عبد الفتاح السيسي.

تزامنت زيارة أوستن مع زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف التي أكّدت أنّ بلادها تدرك التهديدات الأمنية الحقيقية التي يواجهها شركاؤها في الشرق الأوسط. وهي تناولت دور الميليشيات المسلّحة في زعزعة استقرار المنطقة، ومنها حزب الله، وقرار القيادة المركزية الأميركية إنشاء بنية أمنيّة متكاملة للمنطقة تكون السعودية جزءاً مركزياً فيها. وقد أسهبت ليف في تناول السعودية كأكبر شريك تجاري في منطقة الخليج، بما يتجاوز مجالَي النفط والغاز.

اندفاع القوى الغربية الجديد نحو الشرق الأوسط، ومحاولاتها الدؤوبة لاستعادة مواقعها فيه ليسا دليلاً على افتقاد المنطقة للمناعة الوطنية، بل دليل على إعادة تقويم الغرب لسياساته القديمة على امتداد ثلاثة عقود، وإعادة النظر في ما أدّت إليه نظرية “الحروب بالوكالة” التي فوّضت دولاً إقليميةً أو جهاتٍ فاعلةً من خارج الحكومات (Non State Actors)، وانتهجت التدمير البنيوي للمجتمعات العربية لإفقادها مناعتها وقرارها، بدل المواجهة التقليدية.

 

نهاية الفوضى البنّاءة

اعتقدت الولايات المتّحدة التي تولّت قيادة الحكومات الغربية بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتّحاد السوفيتي، أنّ الوكلاء يتيحون لها التفرّغ لتحقيق أهداف أخرى ونقل الجهد الرئيس نحو توسيع الناتو في شرق أوروبا ومحاصرة الدول الصاعدة في الشرق، لا سيما الصين.

أمّا الاستدارة الغربية الجديدة فيبرّرها فشل نظرية “الفوضى البنّاءة” التي تولّاها الوكلاء وارتكزت على انهيار حتمي لدول الشرق الأوسط على خلفيّات مذهبية وإثنية. وهي فوضى تُستتبع بتغيير في الخرائط وتقسيمات للدول القائمة، بحيث تتحوّل إلى إمارات ودويلات فاشلة تُدخل في جاهلية جديدة وتُستباح ثرواتها. لكنّ العقود الثلاثة الأخيرة كانت أكثر من كافية لثبوت فشل تلك النظرية على خلاف ما كانت تتوخّاه القوى الغربية من انصرافها إلى الانغماس في مواجهات أخرى، وبيّنت عدم صوابية الانصراف الغربي عن الشرق الأوسط:

– تبوّأت الصين صدارة الاقتصاد العالمي وعالمه الرقمي وبنَت قواتها المسلّحة.

– عادت روسيا مجدّداً بوجهها الرأسمالي وآلتها العسكرية لمجابهة حلف الناتو، قبل أن يبلغ حدود أوكرانيا.

– أطلّت مشكلة الطاقة مجدّداً وثبت خطأ مجموعات “العصف الفكري” الأميركي التي استندت إلى نظرية الاستغناء عن الشرق الأوسط بعد تحقيق الولايات المتّحدة اكتفاءها الذاتي من الطاقة.

– نشوء تكتّلات اقتصادية دولية وشراكات اقتصادية منافسة للغرب.

اندفاع القوى الغربية الجديد نحو الشرق الأوسط، ومحاولاتها الدؤوبة لاستعادة مواقعها فيه ليسا دليلاً على افتقاد المنطقة للمناعة الوطنية، بل دليل على إعادة تقويم الغرب لسياساته القديمة

الدبلوماسية السعوديّة الجديدة

الجدير بالملاحظة والاهتمام ذاك التزامن بين زيارة وزير الدفاع الأميركي لحلفاء أميركا في المنطقة مع زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان للعاصمة الروسية، بعد أيام من زيارته كييف التي أعلن منها بعد لقائه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي دعم بلاده للجهود الدولية الرامية إلى حلّ الأزمة الأوكرانية – الروسية سياسياً.

أمّا اللقاء بين بن فرحان ونظيره سيرغي لافروف فلم تغِب عنه المسائل التالية:

– استقرار أسواق النفط.

– التنسيق داخل مجموعة “أوبك بلاس”.

– تبادل وجهات النظر حول مجموعة من الأزمات الدولية، ومنها تسهيل الحوار بين موسكو وكييف.

وهذه كلّها ملفّات حرجة وملحّة للولايات المتّحدة. رسائل كثيرة يمكن قراءتها من زيارة بن فرحان لموسكو بالتزامن مع زيارة أوستن للمنطقة، ومنها:

إقرأ أيضاً: 

– استشعار المملكة، وهي مركز الثقل في أيّ منظومة أمنية، أنّ الولايات المتّحدة لم تحسم خياراتها بما يتجاوز التصريحات المعلنة، لا سيما الموقف من الأزمة اليمنية والتهديدات الإيرانية للاستقرار.

– التأكيد على حرّية الدبلوماسية السعودية في اختيار أدوارها الدولية وتحالفاتها بعيداً عن الإملاءات الأميركية.

– التأكيد على أنّ الشراكات التي تسوّق لها الولايات المتّحدة لها قواعدها الجديدة بما يختلف عن نسق الاستتباع الذي كان سائداً.

فهل تُدرك الولايات المتّحدة معنى الشراكة؟

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…