خرازي في بغداد: العراق دولة في الشكل لا في الجوهر..

قبل أيام زار رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الإيرانية وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي العاصمة العراقية بغداد، وعقد سلسلة من اللقاءات مع الجهات الرسمية في الدولة العراقية وقادة القوى والأحزاب السياسية والفصائل الموالية لإيران.

قد لا تختلف زيارة خرازي عن الزيارات التي قام بها مسؤولون إيرانيون آخرون في السابق، إلّا أنّها في هذا التوقيت تأخذ بعداً أكثر أهمية. ذلك أنّ خرازي من المجموعة التي أسهمت في صياغة تفاصيل المشهد الذي تعيشه العلاقات الإيرانية العربية، والإيرانية الدولية، مع أمين المجلس الأعلى السابق علي شمخاني، بدعم من المرشد الأعلى.

آليات جديدة لاتّخاذ القرار

فرضت المعادلات الجديدة أو المشهد المختلف الذي بدأت تعيشه المنطقة بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، على النظام والقيادة الإيرانيَّين، أن يعتمدا لغة وآليّات وأساليب مختلفة تتناسب مع المستجدّ السياسي والإقليمي. وبالتالي تفرض عليها هذه المرحلة التخلّي عن الآليّات القديمة المعتمَدة التي كانت تمرّ عبر بوّابة الحلفاء، من الميليشيات والفصائل المسلّحة، على حساب العلاقة مع الدولة ومؤسّساتها. آليات كانت تغلّب منطق الفوضى والسلاح المنفلت أو المتفلّت، والنظر إلى الساحة العراقية ببعد أحاديّ يقوم على التعامل الأمنيّ والتهديد الدائم والخوف من أن يتحوّل العراق إلى مصدر تهديد للمصالح الإيرانية أو أن ينتقل إلى محور آخر على تعارض أو تناقض مع المصالح الإيرانية والمحور الذي تقوده طهران في الإقليم.

قد لا تختلف زيارة خرازي عن الزيارات التي قام بها مسؤولون إيرانيون آخرون في السابق، إلّا أنّها في هذا التوقيت تأخذ بعداً أكثر أهمية

لا شكّ أنّ غياب قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني عن المشهد كان له أثره، ولا سيما أنّه المسؤول الأوّل عن العلاقات الإيرانية مع دول المنطقة، وخصوصاً العراق حيث نسج علاقة مع الأحزاب العراقية وتحكّم بالعملية السياسية والأمنية. وأحدث هذا الغياب فراغاً، خاصة في الجانب المتعلّق باستراتيجية النظام في طهران التي كانت تقوم على توظيف الدبلوماسية في خدمة الميدان، أي تحويل الإدارة الدبلوماسية الإيرانية إلى إدارة تعمل على تنفيذ ما يريده الميدان ومصالح النفوذ الإيراني في العراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين. وهو ما ساد في العلاقة مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، التي اعتُمدت سياسة التصعيد ضدّها في إطار صراع المصالح الاستراتيجية ومنع أيّ تهديد لهذه المصالح.

المعلن من الزيارة الجديدة أنّها تهدف لتعزيز العلاقات الثنائية، إلا أنّها لا تختلف في الجوهر عن الأهداف القديمة التي سادت وسيطرت في المرحلة السابقة أو قبل أيلول العام الماضي 2022، بعد التفاهم مع الإدارة الأميركية على تسهيل ولادة الحكومة العراقية القائمة برئاسة محمد شياع السوداني. وهو كان مرشّح “الإطار التنسيقي” الشيعي الذي يضمّ حلفاء طهران. ثمّ تكرّست الأهداف نفسها بعد 10 آذار 2023 نتيجة الاتفاق مع السعودية.

إذا ما كانت الأهداف لا تختلف، فإنّ اللغة المستخدمة في التعبير عن الهواجس الإيرانية تجاه العراق والعلاقة معه، ذهبت إلى اعتماد لغة مختلفة مع بغداد أو الحكومة الاتحادية. لغة ابتعدت في مفرداتها عن اللهجة الأمنيّة والعسكرية التي كانت تنظر إلى الساحة العراقية من زاوية التهديد الأمني والعسكري، على قاعدة أنّ “أمن العراق من أمن إيران”. اليوم تحوّلت إلى لغة أكثر براغماتية تنسجم مع المتغيّرات التي تشهدها المنطقة والتحوّلات التي أخرجت المواقف العدائية والتعاطي الأمنيّ من لغة التخاطب الإيراني مع الدولة والمكوّنات العراقية. وباتت تعتمد التركيز على المصالح المشتركة والتعاون والتكامل الاقتصاديَّين والتنمويَّين انطلاقاً من كون “البلدين يعتمدان نظاماً سياسياً يقوم على الديمقراطية أو “السيادة الشعبية” حسب تعبير خرازي، ويستطيعان القيام بدور كبير لخدمة المصالح المشتركة“.

هل اقتنعت إيران بأنّ العراق “دولة”؟

لكنّ السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه المواقف: هل بدأت تتبلور نظرة جديدة لدى قيادة النظام الإيراني في التعامل مع العراق من منطلق أنّه دولة؟

فرضت المعادلات الجديدة أو المشهد المختلف الذي بدأت تعيشه المنطقة بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، على النظام والقيادة الإيرانيَّين، أن يعتمدا لغة وآليّات وأساليب مختلفة تتناسب مع المستجدّ السياسي والإقليمي

أو بتعبير أدقّ هل وصلت هذه القيادة إلى قناعة بأنّ بناء الدولة العراقية وتعزيز مؤسّساتها هما مصلحة إيرانية أوّلاً، ومصلحة لحلفائها من الأحزاب والفصائل ثانياً، وأنّ دولة قوية في العراق تشكّل خدمة للمصالح الإيرانية وعاملاً مساعداً على استقرار الإقليم يبعد التهديدات الأمنيّة؟

الاستقرار النسبي الذي شهده العراق مع حكومة مصطفى الكاظمي، على الرغم من أنّه اعتمد التسليم بمطالب الفصائل على حساب مؤسّسات الدولة، خاصة المؤسّسة العسكرية، أتاح لبغداد هامشاً كبيراً ومؤثّراً للعب دور الوسيط في ترطيب الأجواء وتقريب وجهات النظر بين طهران وجوارها العربي. وعلى الرغم من الترحيب الإيراني بدور بغداد الذي تعزّز وتوسّع في ظلّ حكومة السوداني، لن يغادر هاجسُ القلق والخوف الموقفَ الإيراني، كما هو الحال في مواقف بعض الأطراف العربية. وذلك لاعتقاد طهران أنّ عراقاً قوياً ومستقرّاً وفاعلاً ومؤثّراً في المعادلات الإقليمية يشكّل خطراً كامناً قد ينفجر بوجهها في المستقبل. ولذلك تبدي حرصاً على حصر هذا الدور في الحدّ الأدنى من دون تعطيله.

من وجهة النظر الإيرانية وانطلاقاً من موقف النظام في طهران: يشكّل الدور الجديد الذي تقوم به بغداد في ما يتعلّق بالأزمات الإقليمية أو تلك التي تسهم في توتير العلاقات مع العواصم الكبرى، وخاصة واشنطن، “عاملاً مساعداً في تعزيز الاستقرار والتنمية في المنطقة والتعاون الاستراتيجي على الصعيد الإقليمي بين البلدين”. إلا أنّ هذه اللغة لم تخرج عن اعتبار العراق بوّابة إيران إلى العالم العربي والدول الإقليمية. وهذا يعني أنّ توصيف هذه البوّابة والمهمّات التي تقوم بها يختلف من مرحلة إلى أخرى. فبعدما كان العراق بوّابة النفوذ الإيراني إلى الإقليم و”الجسر” الذي يربط بين قوى المحور الإقليمي عسكرياً وأمنياً، أصبح الآن “جسراً” للعلاقات الاستراتيجية والانفتاح والتعاون والتنمية.

إقرأ أيضاً: هل ينجح لودريان في تعميم الذمّيّة السياسيّة؟

إذا ما كانت المصلحة الإيرانية في السابق تقوم على السكوت عن منطق “اللادولة” الذي خدم ويخدم مصالح الفصائل والأحزاب الموالية والمتحالفة معها، فستكون الآن بسبب المتغيّرات التي تشهدها المنطقة أمام تحدّي تعزيز منطق الدولة وترجيح العلاقات بين المؤسّسات الرسمية للدولتين، وإبعادها عن الطابع الأمني والعسكري. ولن تسمح أن تُدرج صراعات الفصائل فيما بينها على التحاصص وتقاسم السلطة في خانة حساباتها باعتبار أنّ هذه الصراعات قد لا تخدم المصالح الإيرانية، وبالتالي سيكون على هذه الأحزاب والقوى السعي إلى أن تنسجم مع توجّهات طهران، حتى لو كانت لا ترضيها أو تعتقد أنّها على حساب مصالحها الخاصة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…