مع انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في 24 شباط العام الماضي، كانت التوقّعات الروسية والأميركية متقاطعة على أنّ العاصمة كييف ستسقط خلال 72 ساعة، فيما تنهار الدولة كلّها خلال أيام لاحقة. وبناء على هذه المعطيات، عرضت واشنطن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تهريبه على وجه السرعة إلى الخارج، ليقود حكومة منفى في الأقلّ، وحرب عصابات ضدّ الغزاة الروس في أقصى احتمال. على الرغم من أنّ بعض الخبراء الأميركيين حذّر في ذلك الوقت من دعم حرب عصابات أوكرانية، مخافة تصعيد الوضع مع موسكو النووية.
لكنّ قرار المهرّج السابق بالبقاء والصمود مع قوّاته مهما يكن الثمن، بدّل كلّ المعادلات ونسف كلّ التوقّعات. حتى وصلنا إلى مشهد عجيب، لم يكن لأيّ خبير في الشأن السوفيتي، والروسي لاحقاً، أن يحلم به، وهو أنّ ثاني جيش في العالم، وهو في الواقع أضخم قوّة برّية في أوروبا على الإطلاق، سيعاني في أوكرانيا التي لم يكن يعبأ بمصيرها أحد قبل لحظة الاجتياح
بل وتُدمّر آلته العسكرية الهائلة، وهي إرث الاتحاد السوفيتي الذي لا يمكن تعويضه، وتسقط هيبته. فيصبح رهينة ميليشيا من المرتزقة، عشرات الآلاف منهم محكومون بجرائم القتل والاغتصاب وغيرها. وزعيم الميليشيا نفسه يفغيني بريغوجين Yevgeny Prigozhin (وُلد عام 1961) كان محكوماً ومسجوناً تسع سنوات بتهمة السرقة والاحتيال وتشغيل مراهقين في أعمال غير قانونية، قبل أن يتدرّج في المهن، من بائع نقانق إلى مقاول يزوّد الكرملين بالطعام حتى نال لقب “طبّاخ بوتين”. ومن أوّل مؤسّس لكازينو في مدينته سانت بطرسبورغ إلى المقامرة بمصير روسيا. وهو صاحب مجموعة شركات، تتفرّع مهمّاتها بين التجسّس السيبراني (وأبرز أعمالها التدخّل في الانتخابات الأميركية بين عامَي 2016 و2018)، وتقديم خدمات أمنيّة (مجموعة فاغنر) باتت بفضلها تسيطر على بضع دول فاشلة في إفريقيا، وتسطو على مناجم المعادن وحقول النفط فيها.
الأخطر في سلوكات بريغوجين ليس تحرّكاته العسكرية العلنية في زحفه المفترض نحو موسكو، وربّما من دون عقبات حقيقية، بل نقضه لسردية الحرب الروسية على أوكرانيا
حكاية البداية
بدأت الشركة الأمنية الخاصة، اللصيقة بجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية، أولى عمليّاتها السرّية في أوكرانيا عام 2014، لخوض حرب بالنيابة عن الجيش الروسي. وكانت تتكوّن من بضع مئات من الضبّاط والجنود الروس المتعاقدين أصحاب الخبرة القتالية العالية
إلى أن أضحى بريغوجين عمليّاً قائد “قوات الدعم السريع” في حرب أوكرانيا 2022، لاغتيال القيادة الأوكرانية أوّلاً، وهو أمر لم يحصل، إلى إنقاذ بوتين نفسه من ورطته الأوكرانية في معركة باخموت شرقاً بعدما أصبح قائد جيش يتجاوز عدده خمسين ألف مقاتل. وأخيراً، إلى لعب دور المنقذ للأمّة الروسية، في محاولة منه لتكرار تجربة لينين خلال الحرب العالمية الأولى، ليس بسبب الهزيمة فعلاً، بل تداركاً لها على حدّ زعمه!
“انقلاب” بريغوجين
بدأ قائد مجموعة فاغنر انقلابه على القيادة العسكرية الروسية، رغم أنّ جيشه الصغير مجرّد أداة وذراع للكرملين، إبّان احتدام معركة باخموت في شرق أوكرانيا، في أيار الماضي. وهي المعركة الأطول (أكثر من 8 أشهر)، والأكثر دموية (حوالى 100 ألف بين قتيل وجريح بحسب المصادر الأميركية). في تلك الأثناء، راح بريغوجين يمارس سياسة الشفافيّة في تصريحاته المتكاثرة، وهو أمر غير معتاد في روسيا، مثل إعادة النظر في جدوى الغزو الروسي لأوكرانيا، وفساد الجنرالات والأثرياء، وسوء إدارة وزارة الدفاع، لا سيما الوزير سيرغي شويغو Sergei Shoigu، وقائد القوات الروسية فاليري غيراسيموف Valery Gerasimov، وتقديره العالي لعدوّه معتبراً أنّ الجيش الأوكراني بات أقوى جيش في أوروبا، وأنّ الأوكرانيين مقاتلون شجعان، وهذا بعكس الدعاية الروسية المرافقة للغزو، التي شيطنت الأوكرانيّين بوصفهم “نازيّين”، و”فاشيّين”، و”عملاء الناتو“.
ورغم أنّ باخموت سقطت أخيراً، وأعلن بريغوجين سحب قواته منها وتسليمها للجيش الروسي النظامي قبل شهر، إلا أنّ مستوى التوتّر بينه وبين وزارة الدفاع، تصاعد وتفاقم مع الوقت. فمن اتّهامه وزارة الدفاع بعدم تزويد قوّاته بالذخيرة الكافية، وهو ما تسبّب بخسائر كبيرة وسط مقاتليه، إلى اتّهام الجيش بتفخيخ طريق انسحاب مقاتلي فاغنر من باخموت، وقد اعتقل ضابطاً من الجيش وعذّبه وصوّر اعترافاته بهذا الخصوص، وإنذاره الطبقة الحاكمة في روسيا من أنّ البلاد على شفا ثورة بسبب الفشل في أوكرانيا، وأخيراً اتّهامه الجيش بقصف معسكر خلفيّ لفاغنر بالصواريخ أدّى إلى سقوط عدد كبير من القتلى، وتهديده بمعاقبة القيادة العسكرية المسؤولة، أي شويغو نفسه ومعاونيه، في ما سمّاه بمسيرة العدالة، نافياً عنها شبهة الانقلاب العسكري.
الأخطر في سلوكات بريغوجين ليس تحرّكاته العسكرية العلنية في زحفه المفترض نحو موسكو، وربّما من دون عقبات حقيقية، بل نقضه لسردية الحرب الروسية على أوكرانيا، من موقعه كبطل حرب في باخموت. فهو في أبرز تصريحاته التي سبقت التحرّك الميداني المضادّ، المترافق زمنياً مع الهجوم الأوكراني المضادّ لاسترجاع مناطق الشرق والجنوب وصولاً إلى شبه جزيرة القرم، برّأ أوكرانيا من الاتّهامات التي أسّست للعملية الخاصة التي أطلقها بوتين. أي أعلن أنّ كييف لم تكن تستهدف المواطنين الروس في الدونباس بالقصف العشوائي كما كانت تزعم موسكو لسنوات مضت، بل إنّ الأوليغارشية الماليّة الفاسدة كانت تبغي في المقام الأوّل شنّ حرب على أوكرانيا لنهب خيراتها. وهذا الاتّهام ينال أعلى منصب في الدولة، أي الرئيس فلاديمير بوتين. وبات واضحاً أنّ زعيم فاغنر يريد الإطاحة بالقيادة الحالية، تحت ذريعة حماية الشعب الروسي من الهزيمة المقبلة لا محالة. لكنّ تمرّده في هذه اللحظة، يمنح أوكرانيا ما تحتاج إليه لكسب الحرب، بينما كانت تعاني بشدّة من الدفاعات الروسية المحكمة على طول الجبهة. فهل عقد بريغوجين صفقة سرّية مع أوكرانيا، للانقلاب على بوتين، كما فعل لينين المدعوم سرّاً من ألمانيا، لإخراج روسيا القيصرية من الحرب؟
رغم أنّ باخموت سقطت أخيراً، وأعلن بريغوجين سحب قواته منها وتسليمها للجيش الروسي النظامي قبل شهر، إلا أنّ مستوى التوتّر بينه وبين وزارة الدفاع، تصاعد وتفاقم مع الوقت
خائن… أم بطل منقذ؟
قبل أشهر، سرّب أحد العاملين الأميركيين في دائرة استخبارية حسّاسة معلومات عن خفايا الهجوم الأوكراني المضادّ وتحضيراته وأمور أخرى. لكنّ خبراً لافتاً ظهر في الإعلام الأميركي يتّهم قائد فاغنر بمحاولته الاتفاق مع الأوكرانيين على اتفاقية تبادل مصالح، تقضي بالانسحاب الأوكراني من باخموت حتى يسجّل لنفسه انتصاراً يرسمله سياسياً، مقابل تزويد الأوكرانيين بمعلومات عن مواقع الجيش الروسي. وسواء أكان ذلك من قبيل التضليل وحرب المعلومات أم لا، فإنّ القيادة الروسية كانت قد أدركت قبل مدّة أنّ ازدواجية القرار العسكري لا تخدم المصلحة العليا للدولة، فكيف إذا تمدّدت لتصبح ازدواجية في الخطاب الإعلامي والسياسي أيضاً؟
وربّما كانت التجربة المريرة في السودان، والصراع المدمّر بين الجيش وقوات الدعم السريع هناك، من العلامات الجليّة على خطورة إنشاء كيان عسكري رديف، يمكن أن يتحوّل بعد سنوات، إلى عدوّ بالغ الخطورة في الداخل.
إقرأ أيضاً: السودان: الانقلاب على الانقلاب
قد لا يتمكّن بريغوجين من تحقيق حلم السلطة بتمرّده العسكري، وإن كانت معظم الوحدات القتالية للجيش الروسي منخرطة في جبهات القتال في أوكرانيا. لكنّ الضرر الأكيد قد وقع فعلاً، ولا رادّ له. لقد تبيّن أنّ الهجوم الأوكراني المضادّ، هو من النوع الاستخباري والمعنوي، أو ما يسمّى حالياً بحروب الجيل الرابع. وجلّ ما فيها، أن تهزم عدوّك بقوى غير نظامية، وأساليب غير تقليدية، من دون قتال حقيقي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@