المهمّة الأخيرة لهنري كيسينجر!

مدة القراءة 6 د


اختار هنري كيسينجر، بعيد مرور عيد ميلاده المئة، الذهاب إلى الصين. اجتمع في بكين بكبار المسؤولين في الدولة التي تمتلك، بعد الولايات المتحدة، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. عكست حفاوة الاستقبال الذي خصّ به الرئيس شي جينبينغ المسؤول الأميركي السابق مدى تقدير الصين للدور الذي لعبه الرجل، بفضل عقله الاستراتيجي، على صعيد إيجاد تقارب بينها وبين أميركا.

يبدو واضحاً أنّ كيسينجر أراد من خلال زيارته للصين تأكيد أنّه يعتبر الانفتاح الأميركي عليها وإقامة علاقات طبيعية بين البلدين الإنجاز الأكبر الذي حقّقه في تاريخه السياسي الحافل. تميّز هذا التاريخ، الذي كان فيه كيسينجر مستشاراً للأمن القومي ثمّ وزيراً للخارجية في الوقت ذاته، بتلك القدرة الاستثنائية على تحديد الخطوط العريضة للسياسات الدولية واتجاهاتها بعيداً عن التفاصيل الصغيرة التي كان يتفادى الغرق فيها حتّى لو كان معنى ذلك كلفة بشريّة في دولة معيّنة، لا حول لها ولا قوّة.

اختار هنري كيسينجر، بعيد مرور عيد ميلاده المئة، الذهاب إلى الصين. اجتمع في بكين بكبار المسؤولين في الدولة التي تمتلك، بعد الولايات المتحدة، ثاني أكبر اقتصاد في العالم

كيسينجر يغيّر التاريخ

امتلك كيسينجر حاسّة سياسية فائقة الدقّة جعلته يكتشف، في سبعينيّات القرن الماضي، أنّ الاتحاد السوفيتي والصين ليسا في جبهة واحدة، بل توجد منافسة بينهما. وجد أنّه يمكن دقّ إسفين بينهما على الرغم من رفعهما شعارات واحدة معادية لـ”الإمبرياليّة”. استغلّ الحساسيّات بين موسكو وبكين عبر جسّ نبض تمثّل في “دبلوماسيّة كرة الطاولة” .(PING PONG) قاد نجاح هذه الدبلوماسيّة إلى اقتناع الرئيس ريتشارد نيكسون بالذهاب إلى الصين في زيارة استغرقت أسبوعاً. كان ذلك في شباط 1972. لم تمضِ ساعة على وجود نيكسون في بكين حتّى وصلت إلى مساعديه رسالة تقول إنّ الزعيم ماو تسي تونغ يريد عقد لقاء مع الرئيس الأميركي. كانت تلك إشارة ذات مغزى مهمّ نظراً إلى أنّها كشفت توقاً صينياً إلى فتح صفحة جديدة مع أميركا… في أسرع وقت!

غيّر كيسينجر التاريخ. ساهمت زيارة نيكسون للصين في إيجاد هوّة بين موسكو وبكين، وكشفت في الوقت ذاته أنّ العلاقة بين القطبين الشيوعيَّين ليست على ما يرام. لخّص دبلوماسي أميركي كان يدوّن كلام ماو في اللقاء مع الرئيس الأميركي ما حصل بقوله: “أبلغنا الزعيم الصيني وقتذاك أن ليس مطلوباً تسوية المشاكل الصعبة القائمة بيننا، في إشارة واضحة إلى تايوان، بل نستطيع تأجيل مثل هذا النوع من المشاكل والانصراف إلى نقاط نتّفق في شأنها مثل إيجاد توازن مع الاتحاد السوفيتي”.

في مطلع 1992، بعد عشرين عاماً من زيارة نيكسون للصين وصدور بيان شنغهاي الذي أكّدت فيه الولايات المتحدة اعترافها بـ”صين واحدة” وبأنّ تايوان “جزء من الصين” مع تأكيد إصرارها على “تسوية سلميّة للمسألة التايوانية بين الصينيين أنفسهم”،  انهار الاتحاد السوفيتي.

زيارة كيسينجر لبكين

بعد واحد وخمسين عاماً من زيارة نيكسون وكيسينجر لبكين، ثمّة عالم جديد يتميّز بصعود الصين وتراجع روسيا. لا شكّ أنّ شخصاً مثل هنري كيسينجر، ما يزال ذهنياً بوعيه الكامل على الرغم من ضعفه الجسدي، يعي تماماً خطورة أيّ تصعيد أميركي – صيني. ذهب إلى بكين لصيانة الصرح الذي بناه حجراً حجراً والذي بات يخشى انهياره. سيظلّ السؤال ما الذي سيعود به كيسينجر من الصين؟ وهل يكون لديه ما يقوله لإدارة جو بايدن التي باتت تدرك أنّ الصين هي الرابح الأوّل من غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة؟

امتلك كيسينجر حاسّة سياسية فائقة الدقّة جعلته يكتشف، في سبعينيّات القرن الماضي، أنّ الاتحاد السوفيتي والصين ليسا في جبهة واحدة، بل توجد منافسة بينهما

لا يتّسم كلّ ما قام به هنري كيسينجر في حياته السياسيّة بالإيجابيّة. كان مستعدّاً للتضحية بكلّ القيم الديمقراطية حين كانت تدعو الحاجة إلى ذلك. على سبيل المثال لا الحصر، دعم عسكر تشيلي في انقلابهم الدمويّ على الرئيس سلفادور آليندي في عام 1973. لكنّ ما لا يمكن تجاهله أنّه فهم باكراً معنى أخذ الصين من الاتحاد السوفيتي وتوظيف ذلك في خدمة مواقف الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة.

تعاطى كيسينجر مع الشرق الأوسط معتمداً سياسة الخطوة خطوة. نجح في مصر التي وقّعت اتفاق سلام مع إسرائيل في آذار 1979 في وقت صار فيه كيسينجر خارج السلطة. لكنّ الأحداث تثبت أنّه وضع الأسس للسلام المصري – الإسرائيلي، وذلك منذ اتفاق فكّ الارتبط الأوّل مباشرة بعد حرب 1973. فشل كيسينجر في سوريا حيث كان حافظ الأسد مهتمّاً بحماية نظامه الأقلّويّ عن طريق الاستثمار في بقاء حال اللاحرب واللاسلم إلى ما لا نهاية. في المقابل، كان أنور السادات يعرف أنّه لن يستعيد الأرض المصريّة المحتلّة من دون مساعدة الولايات المتحدة. أحسن الرئيس المصري الراحل استخدام الورقة الأميركيّة. استعاد سيناء وما فيها من نفط وغاز، فيما الجولان ما يزال محتلّاً منذ عام 1967.

نتائج الزيارة

بدت الإدارة الأميركية غير راضية عن زيارة كيسينجر لبكين. قال كبير المستشارين الإعلاميين في البيت الأبيض، جوش إيرنست، إنّه ليست لكيسينجر  أيّة مسؤولية رسمية في الإدارة الأميركية ولا يتحدّث باسمها. مثل هذا الأمر ليس سرّاً، لكنّ البيت الأبيض اعتبر في الوقت نفسه أنّ واشنطن “تتطلّع إلى معرفة نتائج تلك الزيارة” من كيسينجر نفسه، وذلك بعد عودته.

 قد يكون كيسينجر أفضل من لخّص نتائج رحلته الصينيّة بقوله: “على الولايات المتحدة والصين القضاء على سوء الفهم والتعايش بسلام وتجنّب المواجهة. فقد أثبت التاريخ والممارسة باستمرار أنّه لا يمكن للولايات المتحدة أو الصين تحمّل التعامل فيما بينهما كخصمين”.

إقرأ أيضاً: الغرب يستكمل تطويق روسيا: ماذا سيفعل بوتين؟

كانت زيارة بكين المهمّة السياسيّة الأخيرة لهنري كيسينجر الذي ترك بصماته على القرن العشرين. كيف سيتذكّره التاريخ؟ الجواب أنّ كيسينجر، الذي كُتب عنه الكثير، يعرف تماماً النتائج الكارثيّة التي ستترتّب على مغامرة صينيّة في تايوان. هل حمل إلى واشنطن ما يفيد أنّ الصين ما زالت ملتزمة التفاهم الذي توصّل إليه ماو ونيكسون في عام 1972 ويقوم على أنّ “تايوان جزء من الصين، لكنّ استعادتها تكون بالوسائل السلمية”؟ ما مفهوم الزعيم الصيني الجديد شي جينبينغ لعبارة “الوسائل السلميّة”؟

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…