أيّ شكل سيتّخذه انتصار ثقافة الموت على لبنان؟

مدة القراءة 5 د

أصعب ما في السياسة التعاطي مع طرف ليس لديه ما يخسره لبنانياً. تلك هي معضلة لبنان واللبنانيّين الذين يتعاملون مع طرف اسمه “الحزب”. ثمّة هوّة لا يمكن ردمها تفصل بين جانبين موجودين على أرض لبنان.

لا فارق لدى الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، بين وجود لبنان وعدم وجوده، وبالتالي بين وجود رئيس للجمهوريّة أو عدم وجود مثل هذا الرئيس. من هذا المنطلق، يستطيع الحزب التعاطي مع لعبة الوقت إلى ما لا نهاية غير آبه بما يحلّ بلبنان واللبنانيّين ومستقبل أبنائهم.

الطبيعي أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة تغيير النظام القائم بما يخدم تكريس الهيمنة الإيرانيّة على البلد، خصوصاً في ظلّ انكشاف الضعف المسيحي والضياع السنّيّ

يعني مثل هذا الواقع، الذي لا مفرّ من الاعتراف به، أن لا فائدة من التفاوض بين القوى السياسيّة من جهة وحزب لا أجندة لبنانيّة لديه باستثناء أنّ البلد ورقة إيرانيّة ليس إلّا. يصلح لبنان لإطلاق صواريخ في اتّجاه إسرائيل أحياناً ويصلح في أحيان أخرى لتوجيه رسائل ودّ إيرانيّة إلى واشنطن من نوع رسالة السماح بترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل. في الوقت المناسب، تصبح مثل هذه الرسالة، التي بعثت بها طهران إلى واشنطن، جزءاً من ملفّ المفاوضات غير المباشرة الإيرانية – الأميركيّة الدائرة حالياً بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” و”الشيطان الأكبر”. هذا “الشيطان” الذي يمكن تحويله إلى ملاك متى دعت الحاجة إلى ذلك، خصوصاً عندما يصير مطلوباً الإفراج عن أموال إيرانية محتجَزة في هذا البلد أو ذاك بسبب العقوبات الأميركيّة!

إلغاء الحدود مع سوريا

عندما اضطرّ الحزب إلى إلغاء الحدود بين لبنان وسوريا فعل ذلك من دون تردّد تحت شعار حماية المقدّسات الشيعيّة في الأراضي السوريّة. كان في الواقع يهبّ لنجدة النظام الأقلّويّ في سوريا، وهو نظام يعني الكثير لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وذلك منذ سماح حافظ الأسد في مثل هذه الأيام من عام 1982 بدخول عناصر من “الحرس الثوري” الإيراني إلى ثكنة للجيش اللبناني في بعلبك، عبر الأراضي السوريّة، بحجّة المشاركة في مواجهة إسرائيل.

لا حاجة في الوقت الراهن إلى إضاعة الوقت في جدل عقيم محوره رئاسة الجمهوريّة لجمهوريّة لم تعد موجودة إلّا نظريّاً، خصوصاً بعد تجربة عهد ميشال عون – جبران باسيل الذي لم يكن سوى عهد الحزب. فبعد مضيّ نحو ثمانية شهور على الفراغ الرئاسي، وفي ضوء الجلسة الأخيرة التي انعقدت من أجل انتخاب رئيس للجمهوريّة، لا مجال سوى الرضوخ لِما تريده إيران مرّة أخرى على غرار ما حدث في 31 تشرين الأول من عام 2016. المعادلة المطروحة في غاية البساطة. إمّا انتخاب سليمان فرنجيّة رئيساً وإمّا الفراغ. أمّا السؤال المطروح فهو: ماذا بعد الفراغ، الذي ليس معروفاً إلى متى سيمتدّ… وكيف سيُستغلّ هذا الفراغ، في سياق سلسلة الانقلابات التي بدأت باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وتُوّجت بالقدرة على إغلاق مجلس النواب ومنعه من انتخاب رئيس للجمهوريّة على الرغم من أن لا مهمّة لديه بصفة كونه هيئة ناخبة سوى تأدية هذه الوظيفة.

لم يخفِ ممثّل الحزب في مؤتمر سان كلو (فرنسا) الذي انعقد في عام 2007، أنّ الحزب ورث الوصاية السوريّة على لبنان، وذلك في أعقاب انسحاب الجيش السوري. لم يخفِ أيضاً أنّ الحزب بات يعتبر نفسه “الناظم السياسي والأمنيّ” للبلد، تماماً كما كان السوري حتى يوم اغتيال رفيق الحريري. لم يعُد سرّاً أنّه يمارس هذا الدور حالياً. ستزداد شهيّته إلى مزيد من الممارسة الفعليّة للهيمنة والدخول أكثر في تفاصيل الحياة السياسيّة اللبنانية مع زيادة حجم الفراغ في الشهور المقبلة، بما في ذلك الفراغ الناجم عن إحالة قائد الجيش العماد جوزف عون إلى التقاعد…

أصعب ما في السياسة التعاطي مع طرف ليس لديه ما يخسره لبنانياً. تلك هي معضلة لبنان واللبنانيّين الذين يتعاملون مع طرف اسمه “الحزب”. ثمّة هوّة لا يمكن ردمها تفصل بين جانبين موجودين على أرض لبنان

مرحلة تغيير النظام

الطبيعي أن تكون المرحلة المقبلة مرحلة تغيير النظام القائم بما يخدم تكريس الهيمنة الإيرانيّة على البلد، خصوصاً في ظلّ انكشاف الضعف المسيحي والضياع السنّيّ، وذلك منذ قبول الأطراف السياسيّة أن يكون مرشّح الحزب رئيساً للجمهوريّة في 2016 ومنذ إقرار قانون الانتخابات العجيب الغريب الذي أُجريت على أساسه انتخابات 2018 و2022.

ليس ما يشير إلى أنّ إيران ستتراجع في لبنان بعدما استطاعت الوصول إلى مرحلة باتت تتحكّم فيها بمن هو رئيس الجمهوريّة المسيحي في البلد وبعدما كرّست العزلة العربيّة للبنان. في أيّ اتّجاه ستعمل على تغيير النظام القائم؟ قد لا تذهب مباشرة إلى المثالثة. يمكن أن تكتفي في مرحلة أولى بوجود نائب لرئيس الجمهورية بصلاحيّات محدّدة، يكون شيعياً، بحجّة أنّ الطائفة غير ممثّلة في السلطة التنفيذية.

إقرأ أيضاً: لا أميركا ولا فرنسا ولا السعوديّة مستعدّة لشراء ورقة لبنان

شيئاً فشيئاً، وبخطوات ثابتة، يتحقّق مشروع الحزب في لبنان، خصوصاً في ظلّ استمرار تهجير المسيحيين منه. ففي كلّ يوم يمرّ، يتبيّن أنّ القوى التي راهنت على المشروع السيادي تعاني من أمراض لا شفاء منها في عالم لم يعُد يجد سبباً للاهتمام بلبنان، سواء أتى إليه مبعوث فرنسي جديد – قديم هو جان إيف لودريان أم لم يأتِ، وسواء تغيّرت الزاوية التي تنظر فرنسا من خلالها إلى لبنان أم لم تتغيّر. هناك انتصار لثقافة الموت على ثقافة الحياة في لبنان. إنّه انتصار لثقافة الموت على لبنان. هذا كلّ ما في الأمر. أيّ شكل سيتّخذه هذا الانتصار في وقت يتبيّن أنّ قوة الحزب، أي إيران، تكمن في أنّه ليس لديه ما يخسره من استمرار الفراغ الرئاسي واستمرار حال الانهيار من جهة، ولديه القدرة على ممارسة لعبة الانتظار حتّى لو لم يبقَ مسيحي واحد في لبنان وحتّى لو زاد السُّنّة ضياعاً أكثر ممّا هم عليه الآن من جهة أخرى…

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…