خارج الخرائط: فلسطين “هُنا”… في القلب

مدة القراءة 4 د

“نحن نقترب من فلسطين”، هكذا أخبرت واحدة من أعضاء طاقم شركة “رايان إير” للطيران الركّاب على متن الطائرة الآتية من مدينة بولونيا الإيطالية والتي كانت تستعدّ للهبوط في مطار “بن غوريون” بتل أبيب، كما نقلت صحيفة “أيرش ميرور” الإيرلندية في تقرير لها.

ليس ذلك خبراً صادماً بالنسبة للإسرائيليين وحسب، بل وللأوروبيين الذين لا يروق لهم أن تبقى فلسطين ماثلة أمامهم أو في ذاكرتهم كقضية أو كشبح قضية أو ظلّها أو حتى كحقّ قانوني يمكن العودة إليه في إطار حقوق الإنسان التي ترفعها أوروبا في وجه الآخرين حين تشعر بالحاجة إلى ذلك.

فالفلسطيني وقد حُرم من حقّه في الانتماء إلى أرض بعينها هي أرض أجداده ومستقرّهم الحضاري، غير مشمول بتلك الحقوق إلا إذا تجرّد من هويّته. وذلك ما لم تفعله أكثر من سبعين سنة من الشتات. ما فعله الفلسطينيون كان معجزة حقيقية حين حفروا اسم فلسطين في الذاكرة البشرية متّبعين أساليب كثيرة لم تكن المقاومة المسلّحة إلا واحدة منها.

“على هذه الأرض، سيّدة الأرض/ كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين”، يقول محمود درويش في قصيدته، “هنالك ما يستحقّ الحياة”، وهو على حقّ

فلسطين لا تُهزَم

“على هذه الأرض، سيّدة الأرض/ كانت تُسمّى فلسطين، صارت تُسمّى فلسطين”، يقول محمود درويش في قصيدته، “هنالك ما يستحقّ الحياة”، وهو على حقّ.

كانت فلسطين تتجدّد عبر السبعين سنة الماضية. هُزمت جيوش ونُكبت شعوب وانكسرت مشاعر واكتظّت الأحاديث بالخيبات، غير أنّ فلسطين لم تُهزم. لا أحد يجرؤ على التفكير في ضياعها، فذلك أمر عبثيّ. الأوطان لا تضيع ما دامت هناك شعوب لا تجد معنى لحياتها إلا من خلال التفكير من خلالها. تعرّض الفلسطينيون لأسوأ أنواع القسوة في التاريخ وتخلّوا عن كلّ سبل الحياة من أجل أن لا يتخلّوا عن حلم العودة.

أُريد لهم أن يكونوا هنوداً حمراً جدداً. أُريد لهم أن يتعايشوا مع نهار عدوّهم باعتباره نهاية لفجرهم الذي لن يتمكّنوا من استعادته وهم يقيمون خارج النظر العالمي، فاخترعوا للعالم حواسّ جديدة ليستعملها في قراءة أشعارهم والإنصات إلى أغانيهم وشمّ رائحة مطبخهم وتذوّق غذائهم وتلمّس الطريق التي تقود إلى فلسطينهم.

بغضّ النظر عن السياسة وألاعيبها ومفردات ممثّليها، من اتفاق أوسلو الذي أنتج المقاطعة التي سُجن فيها ياسر عرفات إلى سلطة رام الله التي يرأسها محمود عباس مروراً بحروب حركة حماس التي خطفت غزّة وصنعت منها سلّة معونات إنسانية، كان الفلسطينيون، مفكّرين وعلماء وشعراء وأطبّاء ومهندسين وأكاديميين ورسّامين وبشراً عاديين، قد صنعوا فضاء يقيم فيه وطنهم. فضاء لن تتمكّن منه الخرائط الاستعمارية.

ارتكب الأوروبيون جريمتهم، من وعد بلفور إلى تسليم فلسطين إلى العصابات الصهيونية. عبر أكثر من سبعين سنة كانوا يدافعون عن تلك الجريمة من خلال صنع تاريخ مزوّر. وكلّ ذلك لم ينفع

هُنا… في القلب

قبل أكثر من عشرين سنة كنت أدرس اللغة السويدية. سألت المعلّمة أحد الطلبة: “من أين أنت؟”، وكان ذلك سؤالاً تقليدياً، فقال “من فلسطين”، فضحكت المعلّمة وفرشت خارطة وسألته بسخرية: “أين تقع فلسطينك؟”، لم يكن هناك ذكر لفلسطين على الخارطة. بقي ذلك الشخص في مكانه وهو يضع يده على صدره، حيث مكان القلب وقال لها “هنا”. صفّقنا يومها لذلك الفلسطيني الذي هزم ببساطة إحساسه نظرية استعمارية أُريد لها أن تستبدل الحقيقة بالواقع. كانت فلسطين هي الحقيقة التي رأتها مضيفة طائرة رايان إير.

ليست فلسطين فكرة ولا هي حلماً. هي أرض وبشر، وطن ومواطنون.

ذات مرّة اشتريت قنينة زيت زيتون من أحد الباعة في عمّان، غير أنّني انتبهت إلى أنّ تاريخ انتهاء الصلاحية لم يكن مسجّلاً عليها. سألت البائع عن السبب. أخبرني بأن زيت الزيتون الحقيقي لا تنتهي صلاحيّته، وقال “هذا الزيت قادم من فلسطين”. من المستحيل أن تجد تاريخاً لانتهاء صلاحيّة فلسطين. ارتكب الأوروبيون جريمتهم، من وعد بلفور إلى تسليم فلسطين إلى العصابات الصهيونية. عبر أكثر من سبعين سنة كانوا يدافعون عن تلك الجريمة من خلال صنع تاريخ مزوّر. وكلّ ذلك لم ينفع. فلا فلسطين ولا أهلها يمكن أن يُختما بتاريخ مزوّر لانتهاء الصلاحيّة.

إقرأ أيضاً: هستيريا إسرائيلية: واشنطن وطهران تتفاهمان

لم يكن لقائي بسامية حلبي في نيويورك عابراً. منذ أكثر من أربعين سنة وتلك المرأة تقيم هناك. لا تقول لك شيئاً عن فلسطين، غير أنّك منذ اللحظة الأولى للقائك بها تُدرك أنّ فلسطين ما تزال حيّة، بل إنّها تزداد حياة كلّما رسمت حلبي لوحة جديدة. الرسم وفلسطين هما الشيء نفسه. تلك الـ”فلسطين” صارت تقع في كلّ مكان يصل إليه الفلسطينيون، وهي أيضاً في قلوبهم يبشّرون بها كما لو أنّها عقيدة.

“نحن نقترب من فلسطين”، تلك نبوءة قيلت باللغة الإنكليزية في طائرة إيرلندية.    

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…