حصدتُ المئات من “بطاقات التعريف” في ذلك اليوم، كانت “الكروت” تنهال على الجميع، ومن الجميع. وكانت الأسماء التي تحملها تعمل في كلّ شيء، وفي كلّ مكان.
وسط عمليات تبادل بطاقات غير مسبوقة، كان الآلاف من رجال الأعمال العرب والصينيّين يملأون ردهات وقاعات مركز الملك عبد العزيز الدولي في الرياض.
اليوان لا تايوان
بدت آلاف الأحاديث كأنّها حديثٌ واحد، وذات منهج واحد من دون تغيير: ماذا تعمل؟ في أيّ المجالات تعمل شركاتكم؟ ما هي رؤية شركاتكم للاستثمار والتوسّع في السنوات المقبلة؟ ما الذي يمكن أن نعمله معاً؟ متى يمكن أن نرتّب اجتماعاً لفريق العمل عندنا وعندكم لبحث ذلك؟
بالنسبة لي كان الموقف محرجاً، ففي أوقات كثيرة كان معظم المشاركين من كبار رجال الأعمال أو المديرين التنفيذيين لشركات ملياريّة، وفي كلّ دقيقة كانت هناك صفقة ما، وفي اليوم الأول للمؤتمر تمّ عقد صفقات بقيمة 10 مليارات دولار.
وسط عمليات تبادل بطاقات غير مسبوقة، كان الآلاف من رجال الأعمال العرب والصينيّين يملأون ردهات وقاعات مركز الملك عبد العزيز الدولي في الرياض
لكنّ هذا لم يمنع نخبة من رجال الأعمال من الحديث والنقاش بشأن السياسة الإقليمية والدولية، وكان تقديرهم أنّه لا يوجد اقتصاد في الفراغ، وأنّ كلّ ما هو اقتصادي هو بالضرورة جيوسياسي.
قال لي رجل أعمال صينيّ: نحن لا نحبّ السياسة ولا الصحافة، وأوّل نصائح نعطيها لقادة الشركات الناشئة: لا تفقد هدفك وأنت تعمل. لا تنشغل بالناتو أو تايوان. ركّز على الدولار أو اليوان.
التعاون من أجل الرخاء
في عام 2019 حضرتُ النسخة الرابعة من مؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيّين، وكان ذلك في مدينة ينشوان في مقاطعة نينشيا ذات الحكم الذاتي، التي يقطنها أغلبية من المسلمين.
في عام 2023 حضرتُ النسخة العاشرة في الرياض، وهي الأكبر والأضخم مقارنة بجميع الدورات السابقة. ففي نسخة الرياض شارك أكبر عدد من رجال الأعمال الصينيّين، وكان من بينهم شخصيات اقتصادية وماليّة بارزة، ومنهم الرئيس التنفيذي لبنك الصين، ورئيس بورصة هونغ كونغ.
انعقد مؤتمر الرياض تحت رعاية وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وتحدّث في الجلسة الافتتاحية الأمين العامّ للجامعة العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، ووزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، ووزير الاستثمار خالد الفالح. وفي الجلسة الأولى مثّلت مصر الوزيرة رانيا المشاط.
جاء في السياق الرئيسي لجميع الكلمات أنّ التقارب مع الصين هو قرار استراتيجي لا رجعة فيه، وأنّ ذلك لا يتعارض مع علاقات العرب مع القوى الأخرى، كما أنّ عماد التقارب مع الصين أساسه الاقتصاد والتجارة، وليس السلاح أو السياسة. وإذا كان من عنوان عريض لذلك التقارب غير المسبوق بين العرب والصين فهو التعاون من أجل الرخاء.
شراكة بنصف تريليون دولار
في نهاية عام 2022 زار الرئيس الصيني شي جينبينج السعودية، حيث انعقدت القمّة العربية – الصينية. وهي القمّة التي أسّست لرؤية عربية تقوم على أنّ هناك نظاماً عالمياً جديداً يتشكّل، وأنّ عهد النظام الأحاديّ القطبيّة قد انتهى.
حسب الوزير خالد الفالح، فقد حان الوقت لأن تكون الصين شريكاً استثمارياً رئيسياً في منطقتنا، في ظلّ عالم متعدّد الأقطاب.
الصين هي الشريك التجاري الأكبر للعالم العربي، إذ وصل حجم التجارة عام 2022 إلى 430 مليار دولار، نصيب السعودية منها 106 مليارات دولار. وقد تضاعف حجم التبادل التجاري الصيني السعودي نحو 30 مرّة في العشرين سنة الماضية. وإذْ تمثّل السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، فإنّ الصين هي أكبر مستورد له في العالم، وفي عام 2022 كانت الصين تستورد نحو 2 مليون برميل نفط من السعودية يومياً. ومن المتوقّع أن يزيد حجم التبادل الصيني السعودي، وأن يصل حجم التبادل الصيني العربي إلى نحو نصف تريليون دولار تقريباً.
تبدي واشنطن قلقاً كبيراً من التحوّلات الجديدة، لكنّ البعض في الولايات المتحدة يرى أنّ العلاقات بين الرياض وبكين لم تتجاوز المستوى الاقتصادي، بينما العلاقات بين الرياض وواشنطن على المستوى العسكري والأمني ما تزال الأقوى
ما بعد الشرق الأوسط الأميركيّ
قطعت بكين والرياض مسافة طويلة في أوقات قصيرة. ففي غضون عام واحد، انعقدت القمّة العربية الصينية في الرياض، وتمّت المصالحة السعودية الإيرانية في بكين، وانضمّت السعودية إلى منظمة شنغهاي، واستضافت الرياض أكبر مؤتمر لرجال الأعمال العرب والصينيين.
في منظمة شنغهاي توجد روسيا والهند، وفي مستوى المراقب أو الشريك توجد السعودية وإيران. وهكذا تلتقي الرياض وطهران من جديد في منظمة عالمية تقودها الصين.
تبدي واشنطن قلقاً كبيراً من التحوّلات الجديدة، لكنّ البعض في الولايات المتحدة يرى أنّ العلاقات بين الرياض وبكين لم تتجاوز المستوى الاقتصادي، بينما العلاقات بين الرياض وواشنطن على المستوى العسكري والأمني ما تزال الأقوى.
قال لي رجل أعمال سعودي التقيتُه في المؤتمر: لسنا في مواجهة مع أميركا ولا تحالف مع الصين. نحن نعمل مع الجميع من أجل مصالحنا. كان عندنا في الرياض وزير الخارجية أنتوني بلينكن قبل أيام، وتحدّث في السياسة، واليوم الصينيون عندنا ونتحدّث معهم في الاقتصاد.
ثمّ واصل قائلاً: لقد استمعتَ معي قبل قليل لكلمة وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان. إنّه يكرّر دائماً: إنّ المملكة لا تلتفت لانتقادات الغرب بشأن تنامي العلاقات السعودية- الصينية، فالأشخاص المعنيّون بالأعمال التجارية يشقّون طريقهم حسب الفرص المتاحة أمامهم.
قال لي رجل أعمال سعودي آخر: إنّنا لم نعد نجامل أميركا على حساب مصالحنا، لكنّنا أيضاً لن نجامل الصين بالمقابل على حساب مصالحنا. مثلاً، هناك مفاوضات بشأن منطقة تجارة حرّة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي منذ عام 2004، ولن نقبل باتفاقية تجارة حرّة تؤدّي إلى إضعاف شركاتنا الناشئة، أو منع المملكة من أن تكون بلداً صناعياً. نريد الانفتاح. هذا صحيح. لكن لا نريد أن يكون ذلك على حسابنا، وفي حال أيّ تعارض، سنقف بلا تردّد مع مصالحنا نحن، لا مع مصالح الآخرين.
يمكن للعالم العربي أيضاً أن يفعلها في سنوات قليلة. لقد منحتنا الصين.. الأمل. وقد عقّب رجل أعمال مصري قائلاً: لا يمكن الاعتماد على أميركا، ولا يمكن الاستغناء عنها. وعلينا أن نعرف كيف ندير هذه المعادلة
الصين الجديدة
لم تعد الصين، كما كانت، ذلك البلد العملاق الحذِر من كلّ شيء، والذي يخفض صوته السياسي باستمرار، ويتفادى الردّ القويّ على انتقادات الغرب. الصين اليوم أعلى صوتاً، وأكثر مواجهةً، وبعض دبلوماسيّيها يتحدّثون بلغة غير مسبوقة.
في مؤتمر الرياض قال لي رئيس شركة صينية: إنّنا لا نخاف من أميركا، فنحن نمتلك وزناً يعادل وزن أميركا، لكنّنا لا نريد الصدام، وما نزال نريد أن يكون عنوان حركتنا في العالم الاقتصاد لا السياسة.
في ورشة بعنوان “الشراكات في عالم الابتكار والبحث” سمعتُ متحدّثاً صينياً يقول: البعض لا يريد علاقة قوية بيننا وبين السعودية. علاقتنا المتصاعدة هي موضع غضب الآخرين. يجب أن نكون منتبهين لذلك. قبل مئة عام لم نكن من أهمّ 10 اقتصادات في العالم، والآن نحن رقم 2 وسنكون رقم 1 قريباً. يجب أن يدرك العالم كلّه ذلك.
قال لي مستشار لشركة صينية مقرّها سنغافورة في أثناء تبادلنا الأحاديث: نحن لسنا صين الستّينيات والسبعينيات. نحن الصين الجديدة.
أمّة واحدة
كان من مزايا مؤتمر رجال الأعمال العربي الصيني في الرياض أنّ كلّ عربي كان يتحدّث على مستويَين، فكان على المستوى الوطني يتحدّث عن بلاده، وعلى المستوى العربي يتحدّث عن العرب جميعاً.
كلّ المتحدّثين العرب تقريباً كانوا يستخدمون الـ”نحن” العربية بقدر استخدامهم “الأنا” الوطنيّة.
في ورشة عمل اكتظّت بالصينيّين قال أحد المتحدّثين العرب: يجب أن تنظروا إلينا كمنطقة واحدة، وفي هذه الحالة سيكون عدد سكّاننا نصف مليار نسمة، وإجمالي دخلنا القومي 3.5 تريليونات دولار، أي أنّنا سكّانياً واقتصادياً قوّة عالمية مهمّة، ويجب وضع ذلك في الاعتبار، حتى لو لم نكن اتحاداً كالاتحاد الأوروبي، لكنّنا واقعياً أمّة واحدة ومنطقة واحدة. ثمّ أكّد المتحدّث على كلمة السيد أحمد أبو الغيط: إنّ العالم العربي، على الرغم من كلّ شيء، يتقدّم نحو سوق عربية مشتركة.
إقرأ أيضاً: أبو مازن في الصين: دقّق في حسابات بكين
في تعبير يلخّص الروح التي سادت المؤتمر قال لي رجل أعمال لبناني: ما نراه في الصين لم نتوقّعه قبل سنوات قليلة.
يمكن للعالم العربي أيضاً أن يفعلها في سنوات قليلة. لقد منحتنا الصين.. الأمل. وقد عقّب رجل أعمال مصري قائلاً: لا يمكن الاعتماد على أميركا، ولا يمكن الاستغناء عنها. وعلينا أن نعرف كيف ندير هذه المعادلة.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.