احترق البلد ولم ينتصر الأسد

مدة القراءة 4 د

لا مجال للمقارنة بين بشّار الأسد وسوريا. فالرئيس السوري كائن زائل، وقبل ذلك هو موظّف رسمي مؤقّت وإن ظلّ البعض يردّد “إلى الأبد”. كان ذلك في حياة الأسد الأب. أمّا في حياة الأسد الابن فقد ازدادت النغمة قسوة حين أُضيفت عبارة “أو نحرق البلد”. البلد للأسف قد احترق وبقي الأسد عنواناً لهزيمة شعب. وبغضّ النظر عن موقفنا ممّا جرى فإنّ هناك شعباً قوامه عشرة ملايين إنسان أو أكثر هو اليوم خارج سوريا. نحن نتحدّث عن ثلث سكّان البلد. وهو ما يعني أنّ ثلث سوريا يقيم خارجها. تلك سابقة لم تحدث في العصر الحديث. حتى في الحروب الكبرى التي شهدتها أوروبا عبر القرون الماضية لم يتعرّض شعب لِما تعرّض له الشعب السوري. صارت الجغرافيا تلهث وراء التاريخ وصار التاريخ يجري مذعوراً وهو يتلفّت. تُرى ما الذي سيقوله للأجيال السوريّة المقبلة؟ ولكن أيّة أجيال نقصد وأين تقيم؟ أجيال وُلدت وستولد في المنافي والمهاجر وخيام النزوح، لا تعرف من “سوريّتها” سوى الألم والعذاب والتشرّد والجوع والإذلال أم أجيال تمّ توطينها واستقرّت وصار الوطن بالنسبة لها عبارة عن صحون ووصفات أطعمة هي فخر المطبخ النباتيّ السوري؟ 
ليس في الإمكان فتح قوس للحديث عن فقرة يمكن نسيانها. ذلك لأنّ سوريا لن تستعيد سوريا التي عاش فيها السوريون الذين لن يكون في إمكان أحد أن يقنعهم أنّ غداً سيكون أفضل من أمس، وأنّ الزمن الذي ضاع يمكن تعويضه، وأنّ ما سيحلّ محلّ نظام الأسد الذي سيذهب حتماً بحكم الطبيعة لا بحكم السياسة سيكون أفضل منه، وأنّ دولة سوريا ستعمّر ما دمّرته الحرب التي صارت أشبه بالمرض المزمن.

لقد أخطأ السوريون، نظاماً ومعارضةً، حين اعتمدوا معادلة “كلّ شيء أو لا شيء” هدفاً لخصومتهم أو صراعهم ولم يكونوا سياسيين على الرغم من أنّ تاريخهم النظري يؤكّد أنّهم كانوا الأكثر دراية بعالم السياسة

لقد أخطأ السوريون، نظاماً ومعارضةً، حين اعتمدوا معادلة “كلّ شيء أو لا شيء” هدفاً لخصومتهم أو صراعهم ولم يكونوا سياسيين على الرغم من أنّ تاريخهم النظري يؤكّد أنّهم كانوا الأكثر دراية بعالم السياسة. ذلك ما يؤكّد نظريّة “العطّار لا يصلح ما أفسده الدهر”. كانت البيئة السياسية فاسدة، ولذلك جرى تفخيخها بيسر وسرعة قياسية بحيث بدا الطرفان وكأنّهما كانا قد استعدّا للدخول في حرب طويلة الأمد، ولم يكن ذلك على المستوى الواقعي حقيقيّاً.
عشر سنوات من الحرب المباشرة، لم تبقَ جهة من جهات العالم لم تساهم فيها علناً أو خفية، ودفعت سوريا ثمنها، وأمّا النظام السياسي الذي كان إسقاطه هو الهدف فما يزال موجوداً. نقول “إنّه موجود على الأقلّ”. أمّا الحديث عن انتصار فتلك بلاهة يمكن أن تعطي فكرة سيّئة عن المعجبين بالنظام السوري هي في الحقيقة فكرة عن الشعوب التي صار الزمن يمرّ بها ولا يمسّها. يتركها في مكانها مثل أصحاب الكهف الذين لم يستيقظوا بعد.
ما خطاب بشار الأسد في قمّة جدّة إلا دليل على أنّ انتظار يقظة الوعي سيكون طويلاً. كان حريّاً به أن يقول شيئاً عن تلك البلاد التي دمّرته لا عن دولته التي هُمّشت. لمرّة واحدة تمنّى الآخرون أن يعرض الأسد تفاصيل مرارة التجربة التي عاشها الشعب السوري وما يزال وسيظلّ يعيشها في شتاته وعلى أرض وطنه على حدّ سواء.
ما يعرفه الأسد عمّا جرى لبلاده لا يعرفه الآخرون بالتأكيد، غير أنّه لم يكن يفكّر إلّا في استعراض انتصاره الذي يعرف الآخرون أنّه فذلكة بلاغية وحسب. فما من انتصار للأسد في ظلّ هزيمة سوريا. وسوريا قد هُزمت للأسف.

إقرأ أيضاً: كلام يرفض بشّار سماعه… وأسئلة لا جواب عنها

ليس جديداً القول إنّ الأسد قد أكّد انفصاله عن الواقع منذ خطابه الأوّل الذي علّق فيه على أحداث درعا (آذار 2011). لكنّ من الصادم أن يستمرّ بانفصاله الرئيسُ الذي يعرف أنّ رأسه هو ثمن الحرب المعلن. تلك واحدة من أعظم لعنات الوضع السوري الذي صار واضحاً أنّه وصل منذ سنوات إلى مرحلة الهلاك. كلّ ما قاله الأسد عن مؤامرة كونيّة صحيح في جزء عظيم منه، لكنّ الصحيح أيضاً أن طريقة تفكير الأسد في سوريا وشعبها هي التي مهّدت لقيام تلك المؤامرة. وعلى الرغم ممّا جرى لم يتراجع الأسد، بل صار يتحدّث بين حين وآخر عن انتصار وهمي لم تكبحه أخبار الغارقين في البحر من السوريّين والضائعين على الجزر والمطارَدين في بيروت والمدن التركيّة والمقيمين مؤقّتاً في دول اللجوء، والأنكى من ذلك صور المدن العظيمة التي صارت خراباً.     

سوريا لم تعد سوريا والأسد ما يزال كما هو.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…