فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجميع بقرار تعيينه الدبلوماسي السبعيني المخضرم وزير خارجيته الأسبق جان إيف لودريان مبعوثاً رئاسياً في لبنان. أُنيطت به مهمّة شاملة، وهي مساعدة لبنان على تخطّي الأزمة السياسية الخانقة، في محاولة فرنسية جديدة في سبيل التوصّل إلى حلّ رئاسي “فعّال ومفيد”. وقد شكّلت الحركة الباريسية خطوة مباغتة على الساحة المحلية في لبنان، وهجمة مرتدّة فرنسية بالسياسة دولياً وإقليمياً.
يُعتبر تكليف لودريان الرئاسي المباشر من الإليزيه حرصاً فرنسياً شديداً على لبنان. هو سياسي محنّك، مشرّع اشتراكي سابق، وكاثوليكي محافظ ومقرّب من الفاتيكان. تربطه علاقات مميّزة ومتينة مع الدول الخليجية، وخاصة المملكة العربية السعودية. وكان قد تولّى سابقاً حقيبة الدفاع لمدّة خمس سنوات في فترة ولاية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند.
قطع الطريق على المستثمرين
جاء تكليفه من أجل قطع الطريق أمام المستثمرين الفرنسيين في السياسة الخارجية حيال لبنان، ووضع حدّ لبعض الأخطاء التكتيكية السابقة. يشكّل هذا القرار عودة جديدة إلى النهج الواقعي في السياسة الباريسية.
يتبع لودريان مباشرة رئيس الجمهورية، ويستمدّ منه ملاءة التفويض الرئاسي على مستوى تكليفه. هو غير مرتبط حالياً بوزارة الخارجية الفرنسية، ولا شأن له بالنشاط الدبلوماسي الطبيعي. حُدّدت صلاحيّاته بنقاط محدّدة، فهو أعلى منزلة من رئيسة الدبلوماسية الفرنسية في حدود مهمّته، وهو ما يجعله متفوّقاً في الصلاحيات الممنوحة له على الفريق الدبلوماسي الثلاثي الممسك بإدارة الأزمة اللبنانية، والمؤلّف من باتريك دوريل، إيمانويل بون، وبرنار إيمييه.
يتقاطع هذا الأمر مع توافر معلومات حول أفكار غير ناضجة تُحضّر للبنان، وهي مخطّطات غير إيجابية تنمّ عن عدم معرفة بالواقع اللبناني لجهة التغيير والتطوير المتهوّر الأكثر من إداري في النظام الحالي
سؤالان مركزيان يطرحان مع تكليف لودريان:
1- هل يؤدّي تعيينه إلى تقويض دور وزيرة الخارجية الفرنسية؟
2- هل يزاحم في إجراءاته الفريق الثلاثي الفرنسي (دوريل، بون وإيمييه)؟
ترتّب دوائر الإليزيه هذه الخطوة بتنظيم دقيق مع حاضرة الفاتيكان، وتنسّقها بشكل تامّ مع الدول الأعضاء في خليّة الأزمة اللبنانية واللقاء الخماسي، وخاصة مع المملكة العربية السعودية، من خلال مواصلة عقد الاجتماعات والمشاورات السعودية – الفرنسية في العاصمة الفرنسية حول الوضع اللبناني.
فهل تكون المبادرة الفرنسية الجديدة:
– تغييراً في نمطية الرؤية الفرنسية للأزمة الرئاسية اللبنانية؟
– عودةً فرنسيةً إلى الواقعية السياسية؟
– حلّاً للأزمة بترجيح كفّة المدرسة السياسية المؤسّساتية على مدرسة التوافقات الأمنية وقوة الأمر الواقع؟
– تراجعاً فرنسياً عن دعم سليمان فرنجية؟
لقد تقاطع خبر التعيين مع خمسة أحداث جاءت متسلسلة ويضاف إليها زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان اليوم الجمعة إلى باريس جاءت كالتالي:
1- جولة غبطة البطريرك الراعي الأوروبية، وزيارته كلّاً من الفاتيكان وفرنسا.
2- تقاطع أغلبية القوى المعارضة في لبنان “رئاسياً” واتفاقها على ترشيح الوزير الأسبق جهاد أزعور لرئاسة الجمهورية.
3- زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للمملكة العربية السعودية، ومشاركتها في أعمال المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب و”داعش”، ولقاؤها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان.
4- مجيء وزيرة الخارجية الفرنسية إلى قطر للمرّة الأولى، ورئاستها مع نظيرها القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في الدوحة، الدورة الثانية للحوار الاستراتيجي بين البلدين، إضافة إلى التنسيق والتشاور بينهما بتناغم مع الموقف السعودي وبسقف البيان الثلاثي بخصوص لبنان.
5- الحديث عن العقوبات الأوروبية والأميركية التي قد تستهدف كلّ من يعرقل الاستحقاقات الدستورية والسياسية والاقتصادية في لبنان، ومجموعة جديدة من الشخصيات الطبيعية الفاعلة في الشأن العامّ اللبناني.
فتَح موضوع تكليف لودريان بمهمّته الباب اللبناني على الكثير من التحليلات والتكهّنات والفرضيّات في الظاهر والمضمون.
تتمحور عودة لودريان إلى لبنان من أجل السعي إلى إيجاد حلّ للمسألة اللبنانية، وإلى حماية الجمهورية قبل انتخاب رئيسها، فلا جدوى من رئيس بلا دولة في الأصل
أ- في الظاهر
منحت هذه الأنشطة المتتابعة ظاهرياً من حيث الشكل هذا القرار زخماً سياسياً مشهدياً نتيجة تعدّد فرضيّاتها الاحتمالية في التفسير السياسي والإعلامي، حيث أضافت هذه الحراكية الفرنسية إلى سياستها الخارجية جرعة من المتانة التكتيّة. هذا وتعاني فرنسا من ضحالة ناجعة في سياستها الخارجية، ومن ركود متلازم في تحقيق النتائج، بسبب كثرة التباينات الداخلية. وتعكس هذه الاختلافات في طرائق التفكير التغيير الواقعي في المزاج السياسي الفرنسي. تريد فرنسا التعويض في كيفيّة الاستجابة لتواتر الأحداث على المسرحين الدولي والمحلّي الفرنسي أيضاً.
ب- في المضمون
يتخطّى أمر هذا التكليف الرئاسي الشغور الحالي في مقام رئاسة الجمهورية اللبنانية، ويحتوي في المضمون على أمر جوهري مختلف، ويتعدّى مقصده المساعدة في ملء الكرسي الدستوري الأول بالشخصية المناسبة. باتت الإدارة الفرنسية متأكّدة بشكل تامّ وأكثر من أيّ وقت مضى من أنّ المسألة في لبنان ليست أزمة شغور رئاسي ومعركة على انتخابات رئيس الدولة، بل هي أزمة نظام وخطأ في الممارسة، حيث يُعتبر الاستحقاق الجمهوري مهمّاً جدّاً لكنّه ليس كلّ شيء، وهو جزء مهمّ من كلّ.
ما الجدوى من رئيس بلا دولة؟
يتقاطع هذا الأمر مع توافر معلومات حول أفكار غير ناضجة تُحضّر للبنان، وهي مخطّطات غير إيجابية تنمّ عن عدم معرفة بالواقع اللبناني لجهة التغيير والتطوير المتهوّر الأكثر من إداري في النظام الحالي، واللعب في التراب والجغرافيا الوطنية اللبنانية. وهو ما نبّهت منه الفاتيكان، وتتناغم معها فرنسا في ذلك. يتوافقان على قطع الطريق وعدم السماح أبداً بالتفريط بصيغة لبنان 1920، أي لبنان الرسالة، الوطن المتنوّع بحضاراته والمتعدّد بثقافاته المجتمعية، الواحد الموحّد بترابه. تتمحور عودة لودريان إلى لبنان من أجل السعي إلى إيجاد حلّ للمسألة اللبنانية، وإلى حماية الجمهورية قبل انتخاب رئيسها، فلا جدوى من رئيس بلا دولة في الأصل.
رئيس جمهوريّة يحمي الصيغة اللبنانيّة
يبدأ هذا الكلّ بإصلاح وتطوير المؤسّسات الإدارية والتطبيق الحقيقي للنظام السياسي، واحترام الدستور وموادّه القانونية، ومكافحة الفساد وترشيق القطاع العامّ وتفعيل المفاهيم الحوكميّة الشفّافة. وتبدأ هذه الخطوات الضرورية من بوّابة الاستحقاق الجمهوري الحالي وضرورة إنهائه بسرعة، بغاية أساسية هي المحافظة على الصيغة اللبنانية الأصيلة المؤسّسة سنة 1920، والمرتكزة حالياً على دستور ووثيقة الوفاق الوطني المسمّاة اتفاق الطائف الذي أنهى مرحلة التحارب وأدخل لبنان مرحلة الاستقرار ومهّد الطريق للانتقال من دولة الطوائف إلى الدولة المدنية المؤسّساتية، حيث يُعتبر “الطائف” المرحلة الانتقالية للعبور نحو الدولة اللبنانية المقصد والهدف، ولا سبيل إلى ذلك إلا من خلال تطبيقه الصحيح.
تتركّز الغاية على التوافق على رئاسة الجمهورية من خلال تقاطع تفاهميّ متشابك على شخصية جامعة غير استقطابية لأيّ طرف، فلا تستفزّ “الممانعة”، ولا تجعل من لبنان أرض ولاية فقيه حقيقية، ولا تجبر بعض الفرقاء اللبنانيين على المطالبة بتغيير الصيغة أو بالتقسيم. لذا يُعتبر الهدف الأساسي الحالي هو تمرير الاستحقاق الرئاسي بما يخدم الصيغة التقليدية اللبنانية الضامنة الأساسية لمفهوم العيش المشترك والتنوّع والمناصفة. في توافق جوهري تامّ على أن تكون اللامركزية الإدارية الملحوظة في “الطائف” سقف التطوير الإداري والمؤسّساتي.
إقرأ أيضاً: لبنان: اتفاق ضمنيّ فرنسي – إيراني؟
عدم حلّ المأزق اللبناني سقطة كبيرة للسياسة الفرنسية الخارجية، التي تعاني من قصور كبير في الإنتاجية وركود بالفعّالية انطلاقاً من الحرب الأوكرانية وصولاً إلى شمال إفريقيا. لذلك تصرّ فرنسا على مساعدة لبنان بكلّ الوسائل والسيناريوهات.
غيّرت فرنسا أخيراً في نمطيّة رؤيتها لطريقة حلّ وإنهاء الشغور الرئاسي، نتيجة توافر العديد من الأسباب والوقائع. ولكنّها لن تغيّر موقفها من ضرورة حلّ الأزمة اللبنانية من بوّابة البيان الثلاثي ومقرّرات اللقاء الخماسي. من هنا يتلاقى ويتناغم هذا التعيين بشكل كامل مع الرؤى الدولية.
خبر الوزير السابق لودريان المخضرم (دبلوماسياً وأمنيّاً) لبنان جيّداً. كان أول من حذّر من مغبّة ما هو مقبل عليه البلد من صعوبات لدرجة زوال الجمهورية. شبّهه أيضاً بالتايتانيك المنكوبة الصامتة. هو شخصية عالمة وعارفة بالعمق بتفاصيله. أُسندت إليه مهمّة تراكمية وأبعد من الرئاسة. ويُعتبر أمر حلّها ليس سهلاً وسريعاً. يرتبط معيار نجاحها من عدمه بملاءة التحرّك المحلّي التوافقي والدولي والإقليمي الاتفاقي. دخل لبنان مرحلة حسّاسة جدّاً من تقرير مصيره مرهونة بالظروف والتقاطعات المفصلية، وتنطلق بشكل حقيقي بعد جلسة 14 حزيران، وهو موعد عودة لودريان إلى بيروت. فما بعد هذا التاريخ ليس كما قبله. ونجاح هذه المهمّة من عدمها تحدّده الأيام.