يروي ميشال عون أنّه يوم حُدّد موعد إعلان تفاهم مار مخايل في 6 شباط 2006، كانت لا تزال خمس نقاط عالقة لم يتمّ التوافق عليها بعد في نصّ الاتفاق. ومع ذلك طلب من معاونيه تحديد الموعد والتأكيد بأنّ التفاهم قد أُقرّ.
بعدها حين سئل عن سرّ ما حصل، قال: “راهنت على أنّني لن أختلف مع هذا الشخص الذي كنت ذاهباً للتفاهم معه. كأنّني كنت أعرفه ويعرفني عن بعد. وكأنّنا كنّا ندرك معاً أنّنا بمجرد إن نجلس ونتناقش، يستحيل أن نختلف. وهكذا كان”.
بعد 17 عاماً ونيّف على تلك المخاطرة بالتخاطر، يبدو أنّ أموراً كثيرة تغيّرت بين الرجلين. كما بين ناسهما. ليس أقلّها خمسة أصوات نيابية ضائعة في جلسة الانتخاب الأخيرة. جلسة بدت أقرب إلى المشهد الأخير في تلك التراجيديا التفاهمية. حيث أسدلت الستارة وتودّعَ الممثلون وتوزّعَ الجمهور بين دامع وشامت…
******
كثيرة هي المطبّات التي اجتازها التفاهم بين التيار والحزب. وعديدة هي محطّات اللاتفاهم التي اعترته. لكنّها المرة الأولى التي يبلغ الأمر، حدّ الاتّهام المتبادل العميق والكلّيّ. كأنّ في الطرفين من يقول: لقد خُدعنا. ما كان لم يكن غير وهم. وقد آن أوان معرفته والاعتراف به، قبل المزيد من الشطط والخطر.
من جهة تيار باسيل أوّلاً. هناك كلام كثير. في الفكر والاجتماع والثقافة. كما في السياسة.
ضرّة اسمها نبيه برّي
على المستوى الأوّل، كانت قيادة التيار تدرك منذ البداية أنّها تتعامل مع لبنانيّين. ومع لبنانيّين أصيلين صميمين. لكن بذهنيّة وعقليّة ومرجعيّات فكرية وثقافية وسوسيولوجية غير لبنانية. وكانت تتعامل مع ذلك على طريقة وَهْم مشروع “اللبننة” على الطريق، كما يقول بعضهم.
نقل عن العونيين تأكيدهم: صحيح أننا منذ اللحظة الأولى للتفاهم، كنا في تجاذب دائم. هو التجاذب الذي عبر عنه أحد الظرفاء المعنيين بالملف
منذ اللحظة الأولى، بعد أسابيع قليلة على التفاهم، يقولون، كانت المرّة اليتيمة التي شاركونا في عشائنا السنوي، في 14 آذار 2006. جاؤوا وطلبوا أن تكون لهم طاولة خاصّة لوحدهم في جانب بعيد من القاعة. لأسباب معروفة… وهكذا أمضينا 17 عاماً. معاً، لكن على انفراد!
حتّى حين اعتصمنا معاً في وسط بيروت ضد حكومة السنيورة، أمضينا أشهراً في حسابات ومعاناة يومية دقيقة ومعقّدة حول نشاطاتنا المفترضة مشتركة في الساحة، من موسيقى وغناء. لندرك يومها عمق الاختلاف. ولا ننسى ما اكتشفناه حينها من “جواز الاستماع لا الاستمتاع”!
على مدى 17 عاماً لم نتمكّن من بناء أيّ مشتركات يومية. لا علاقات عائلية. لا مناسبات اجتماعية عفوية تلقائية. لا تجاور طبيعياً حياتياً معيوشاً. كلّ ما جمعنا كان بروتوكولياً في مناسبات رسمية ولياقات حملت أقصى الدماثة وقمّة التهذيب وحسب.
كلّ ما بيننا كان من فوق. وظلّ من فوق. لم يسقط لحظة على ناسنا وقواعدنا. كنّا أقرب إلى “كونفدرالية سياسية”، أكثر منّا في تحالف وطني.
باختصار، يهمس التيّاريّون: لقد تبيّن أنّ ناجي حايك كان على حق بيننا. لا مقولات الذمّيّة المناقضة له.
أمّا في السياسة، فيضج المنطق العوني بنظرية عدم التوازن وعدم التكافؤ بين مكاسب الطرفين من التفاهم.
ينقل عنهم تفكيرهم بوضوح: بلى نحن أمّنا الغطاء المسيحي والوطني للحزب. خلال حرب تموز. وبعد 7 أيار. وطيلة الحرب السورية. وكل يوم. فيما هو كان يراكم في بيئته ونحن نخسر في بيئتنا. ولو لم يعترف الحزب بذلك. أمنا هذا الغطاء على حساب وجدان الكثير من ناسنا. وحتى على حساب تحميل ضميرنا في بعض المواقف والمواقع. حتى بعد انتخاب عون رئيساً، نحن من عمل على تحجيم سعد الحريري، وعلى ترويض وليد جنبلاط. معتقدين أننا بذلك نقفل الساحة اللبنانية كاملة، على احتكار ثنائي مار مخايل. لها.
وهو ما صح وحصل. بدليل أننا حين وصلنا إلى استحقاق رئاسة 2022، لم يعد الحريري هنا. ولا جنبلاط وازناً. بل صرنا وحدنا نحن والحزب. لكن بدل أن نجده إلى جانبنا. وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه معه.
أي مقاصة ختامية أو خلاصة موضوعية دقيقة لتفاهم مار مخايل اليوم، تجزم بأننا أعطينا أكثر بكثير مما أخذنا.
حتى ما أخذناه في الانتخابات النيابية أو في الحكومات مثلاً، كان مكسباً للحزب مباشرة. لأننا أخذناه من أمام سمير جعجع. وهو بعبع الحزب الدائم. وبالتالي كان الحزب مستفيداً من كسبنا. وهو كان سيتضرر أكثر منا، لو خسرنا أي مقعد نيابي أو وزاري، كان سيملأه جعجع وحده.
نقل عن العونيين تأكيدهم: صحيح أننا منذ اللحظة الأولى للتفاهم، كنا في تجاذب دائم. هو التجاذب الذي عبر عنه أحد الظرفاء المعنيين بالملف، بقوله: حاولنا طيلة أعوام أن نشرح لهم أننا نريد بيننا زواجاً مارونياً. فيه طرفان اثنان لا غير. وأي ثالث يدخله، يدمره.
وحاولوا طيلة الفترة نفسها أن يُفهمونا أنّنا وإيّاهم في زواج متعدّد غير ماروني. وأنّ فيه ضرّة سابقة ودائمة ومتقدّمة علينا ولها الأولوية، اسمها نبيه برّي.
وهذا ما انتهى إلى تفجير التفاهم باليوميّ والتدريجيّ والعمق.
ومع ذلك استمرّت المحاولة طيلة تلك الأعوام. حاولنا إقامة معادلة: أن نعطي كل شيء في دعم المقاومة. وذلك عن اقتناع إرادي طوعيّ عميق. مقابل أن نأخذ في بناء الدولة. بحيث نعوّض في الثانية ما يمكن أن نخسره في الأولى، على مستوى عدم تفهم المسيحيين أو عدم تقبّلهم.
معادلة خسارة بخسارة
لكن في النهاية اكتشفنا أنّنا أعطينا كلّ شيء. ولم نأخذ شيئاً. فصارت معادلتنا خسارة بخسارة.
يتردّد في أوساط العونيين: تصوّروا على مدى عشرة أعوام ونيّف، لم نتمكّن من معالجة قضية لاسا. وهي في قلب قضاء كنّا نحتكر تمثيله نيابياً. لا بل تمدّدت المشكلة لتصير عندنا “لاسايات” كثيرة. في الجديدة والفنار والنبعة وفي كل مكان. صرنا متّهمين من بيئتنا بأنّنا نغطّي قيام “معسكرات” في قلب مناطقنا، تمهيداً لما يشبه الحرب، من أجل مصلحتنا الخاصة وحساباتنا الضيّقة…
وسكتنا. حتى انتُخب ميشال عون رئيساً. قلنا علناً إنّ صمودهم معنا يومها أكبردليل على توازي التفاهم ونجاحه الوطني. لنبدأ عندها بناء الدولة القويّة القادرة العادلة، كما طالما قالوا ونادوا وطالبوا.
منذ اللحظة الأولى أكّدنا في خطاب القسم أنّنا نريد استراتيجية دفاعية. فكان الردّ بعد أيام بعراضة مسلّحة في القصير.
حتى وئام وهّاب، تذكّر أن يعلن ما سمّاه “سرايا التوحيد” المسلّحة بعد انتخاب عون. ففهمنا الرسالة.
ولم يخفِ الرئيس قلقه وردّ فعله حيال ذلك. فخرج في الذكرى الثانية لانتخابه ليحذر مباشرة على الهواء: أنتم تؤسّسون لحرب أهليّة جديدة!
هكذا حتى فشل عهدنا وسقط وانتهى. ليبلغونا بعده فجأة: الآن دور سليمان فرنجية.
هذا يعني أنّهم يوم وقفوا مع ميشال عون، لم يفعلوا لأنّه يمثّل بيئته. ولا لأنّهم مؤمنون بميثاقية نظامنا. ولا لأنّهم مقتنعون بعمق تشاركيّة ديمقراطيّتنا. بل لأنّ حساباتهم اقتضت يومها ذلك. والآن هي الحسابات نفسها اقتضت منهم أن يسموا المسيحي الأضعف.
كأن هناك من يقول لنا: نحن أعطيناكم الرئاسة. ولكنّ لنا نحن الجمهورية.
لكن لماذا يعلنون ويصرّون ويتعنّتون بأنّ فرنجية أو الفراغ إلى ما لا نهاية؟
ليكرّسوا ثلاثة أمور: أوّلاً، القاعدة الشرعية بأنّ هم من يقرر. لا نظامنا ولا ديمقراطيّتنا ولا أيّ آليّة أخرى. وثانياً، أنّ الانتخاب مسألة غير مطلوبة ولا مرغوبة ولا مستحبّة. ثمّة قرار أعلى يصدر. تترجمه صندوقة الاقتراع لا أكثر. وثالثاً، أنّ هذا المسار يفترض أن يؤدّي إلى تغيير النظام بالكامل… وهذا ما لا يمكن لتيّار ميشال عون أن يحمله أو يحتمله.
ومع كل ذلك سكت تيّار باسيل وعضّ على جرحه. اعتبر أنّ الاستحقاق الرئاسي سيكون مفتوحاً. تنافس ديمقراطي حضاري ودي. ومن يخسر يهنئ الفائز.
إلى أن بدأت عملية اختراق الحزب لداخل التيار. كما اتهمه علناً باسيل في كلامه الأخير.
إقرأ أيضاً: حين قال لي “السيّد”: عباءتي يحميها المسيحيون
يروي أحد العارفين أنه قبل أشهر، خرج أحد نواب باسيل علناً، عن قرار التيار في انتخابات الرئاسة. لا بل وجه انتقاداً إعلامياً لرئيس تياره. ولأن باسيل يعرف مدى طواعية رجله وتدجنه عنده سابقاً، اكتفى بأن أرسل إليه تنبيهاً خطياً مع معاونيه الإداريين في التيار. ففوجئ بأن النائب المذكور مزق كتاب باسيل وأعادة إليه في المغلف نفسه، مع تدوينه عليه: مرتجع مع الشكر.
عندها فهم باسيل أن “الصوت صوت يعقوب لكن اللمس لمس عيسو”. أي أن الحزب اخترقه. وإلا فمن أين لرجله هذا بشجاعة معدومة منذ الولادة؟! وهو ما تأكد في جلسة 14 حزيران.
عند هذا الحد بدا التفكير جدياً وفعلياً بأبغض الحلال. وقيل أن هذا كان موضوع البحث الفعلي، من الرابية إلى دمشق: تنظيم طلاق بالتراضي مع حفظ ود الأيام الماضية…
رحم الله جان عبيد، فخامة المكرَّس بلا انتخابات ولا من ينتخبون أو يهربون أو يهرّبون. كان يحلو له أن يردد هذه الآية من حكمة سليمان في سِفره: “لكي يعلموا أن ما خطئ به أحدٌ، به يُعاقب”.
حقاً قال…
( يتبع غداً: كيف يقرأ الحزب سلوك باسيل؟)
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@