الهرب من الواقع… إلى البرلمان الأوروبيّ!

مدة القراءة 6 د


ثمّة هرب لبنانيّ مستمرّ من الواقع. يمارس معظم اللبنانيين هذا الهرب وذلك منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة في عام 1969. ما زال معظم اللبنانيين يُلهون أنفسهم باللاجئين السوريين في لبنان من دون أن يسألوا أنفسهم سؤالاً واحداً: من وراء تدفّق اللاجئين السوريين على لبنان؟ الأهمّ من ذلك: من يمنع عودتهم إلى أرضهم في ظروف آمنة؟

بدل طرح السؤال الحقيقي المرتبط بالواقع وما يدور على الأرضين اللبنانيّة والسوريّة، تُوجّه اللعنات إلى البرلمان الأوروبي الذي أصدر أخيراً قراراً يدعو إلى بقاء اللاجئين السوريين في لبنان، في غياب الضمانات المرتبطة بعودتهم كبشر يستأهلون حياة كريمة.

قبل كلّ شيء، لا يمتلك البرلمان الأوروبي ما ينفّذ به قراره. يظلّ القرار حبراً على ورق، علماً أنّ القرار يكتسب أهمّيّته من ناحية تحديده لعناصر الأزمة اللبنانيّة وتسمية معرقلي انتخاب رئيس للجمهوريّة بأسمائهم من دون مواربة. المقصود بذلك الثنائي الشيعي و”التيار الوطني الحر” الذي على رأسه جبران باسيل. لم يتوقّف سوى عدد قليل من اللبنانيين عند الهجوم الذي شنّه الحزب على قرار البرلمان الأوروبي.

ثمّة هرب لبنانيّ مستمرّ من الواقع. يمارس معظم اللبنانيين هذا الهرب وذلك منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة في عام 1969

دور الحزب في تهجير السوريين

ما دور الحزب في تهجير السوريين من سوريا والحلول مكانهم في مناطق معيّنة داخل الأراضي السوريّة؟ الأهمّ من ذلك كلّه الدور الإيراني في تغيير طبيعة سوريا وإحداث تغيير ديمغرافي في العمق مع استهداف خاصّ للمدن السوريّة التي كانت في الأصل مدناً سنّيّة مع وجود مسيحي كبير فيها، كما حال دمشق وحلب حمص وحماه ودمشق واللاذقيّة.

لا مفرّ من الاعتراف بوجود مشكلة لبنانيّة ضخمة اسمها وجود اللاجئين السوريين. لا يمنع ذلك وجوب التعاطي مع الواقع بدل الهرب منه وعدم التفكير في ما يمكن عمله وما لا يمكن عمله. ليس صدفة الحملة التي شنّها الحزب على البرلمان الأوروبي بغية تحويل الأنظار عن دوره في تهجير السوريين إلى لبنان، خصوصاً من مناطق قريبة من الحدود بين البلدين، وفي القصير تحديداً. ليس صدفة أيضاً أن يتنطّح نائب يميني متطرّف في البرلمان الأوروبي يدعى تييري مارياني لتهييج اللبنانيين على اللاجئين السوريين، علماً أنّ هذا النائب من مؤيّدي بشّار الأسد الذي سبق له أن قال تعليقاً على تهجير السُّنّة من سوريا إنّ “المجتمع صار أكثر تجانساً”.

من المفيد أن يلتقط اللبنانيون أنفاسهم وأن يسألوا كيف يمكن لبلد القبول بتوقيع اتفاق القاهرة في خريف عام 1969 بعد أشهر قليلة من هبوط مجموعة كوماندوس إسرائيليّة في مطار بيروت أواخر عام 1968 وتفجير كلّ طائرات “شركة طيران الشرق الأوسط” التي كانت جاثمة على أرض المطار؟ ألم يكن ذلك إنذاراً كافياً كي يفهم لبنان أن لا مصلحة له من قريب أو بعيد بالسماح لمجموعات فلسطينية باستخدام مطار بيروت كنقطة انطلاق لخطف طائرات ركّاب إسرائيلية، كما حصل مع طائرة خُطفت وقتذاك من أثينا؟

لم يتعلّم اللبنانيون شيئاً من كارثة مطار بيروت. ذهبوا إلى اتفاق القاهرة من دون أن يسأل الزعماء المسلمون كيف يمكن تحرير فلسطين من جنوب لبنان في ضوء الهزيمة العربيّة في حرب 1967؟ في الوقت ذاته، ذهب زعماء مسيحيون، باستثناء الراحل ريمون إدّه، إلى تأييد اتفاق القاهرة من منطلق أنّ مثل هذا التأييد يعبّد الطريق إلى رئاسة الجمهوريّة!

لم يتغيّر شيء في لبنان من ناحية ممارسة الهروب المستمرّ من الواقع. مشكلة اللبنانيين في الدرجة الأولى مع إيران والحزب والنظام السوري المشاركين في عملية تغيير طبيعة سوريا أساساً. ليس اللجوء إلى التنديد بتوصية البرلمان الأوروبي أكثر من محاولة لإيجاد عذر يحول دون تحديد مصدر العلّة.

ما زال هناك لبنانيون يتحدّثون إلى اليوم عن “مؤامرة دين براون” التي لا أساس لها من الصحّة ولا علاقة لها بالحقيقة. هناك في الوقت الحاضر مشكلة حقيقية اسمها الوجود الإيراني في لبنان

“توطين الفلسطينيين مكان المسيحيين”

لجأ اللبنانيون في الماضي إلى كذبة كبيرة اسمها رغبة المبعوث الأميركي دين براون في توطين الفلسطينيين في لبنان ليحلّوا مكان المسيحيين. لا وجود لأيّ أساس لهذه الرواية، استناداً إلى الدبلوماسي الأميركي الذي رافق دين براون إلى بيروت أواخر عام 1975. تولّى هذا الدبلوماسي، الذي ما يزال حيّاً يُرزق، والذي تحدّث إليّ شخصياً، تسجيل محاضر الاجتماعات التي عقدها دين براون مع المسؤولين وممثّلي القوى السياسيّة في لبنان.

طالت اللقاءات أكثر ممّا يجب، ذلك أنّ هنري كيسينجر، وزير الخارجية الأميركي في حينه، أخذ كلّ وقته لإيجاد صيغة تؤدّي إلى ضبط الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان خشية نشوب حرب إقليميّة. توصّل إلى ذلك بعد التوصّل إلى اتفاق مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، بوساطة من الملك حسين رحمه الله. بموجب ذلك الاتفاق الذي باركته إسرائيل ثمّ عمدت إلى تعديله، يضع الجيش السوري بعد دخوله لبنان يده على كلّ المواقع التي يوجد فيها مسلّحون فلسطينيون، بما في ذلك خطّ الحدود مع إسرائيل. ما لبثت أن غيّرت إسرائيل في بنود الاتفاق وطلبت بقاء مسلّحين فلسطينيين في جنوب لبنان كونها “تحتاج إلى الاشتباك مع هؤلاء بين حين وآخر”، على حدّ تعبير إسحق رابين الذي كان رئيساً للوزراء في إسرائيل عام 1976.

ما زال هناك لبنانيون يتحدّثون إلى اليوم عن “مؤامرة دين براون” التي لا أساس لها من الصحّة ولا علاقة لها بالحقيقة. هناك في الوقت الحاضر مشكلة حقيقية اسمها الوجود الإيراني في لبنان. يحتاج التصدّي لهذه المشكلة إلى قيادة سياسيّة متماسكة بدءاً بوجود رئيس للجمهوريّة يمتلك حدّاً أدنى من الفهم السياسي لِما يدور في المنطقة والعالم. مثل هذه القيادة السياسية لا تتابع الهرب من الواقع ولا تتلهّى بالقرار الصادر عن البرلمان الأوروبي بمقدار ما تحاول الإجابة عن السؤال المرتبط بالواقع.

إقرأ أيضاً: النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

يقول هذا السؤال: كيف التعاطي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران والنظام السوري في ضوء رغبتهما في إبقاء أقلّ عدد من السُّنّة في سوريا… وتكريس الفراغ السُّنّي في لبنان وشرذمة مسيحيّيه قدر المستطاع!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…