صوت فيروز… في قصر بعبدا

مدة القراءة 6 د

 

كانت الجامعة الأميركية في بيروت في ذلك النهار تعيش يوماً تاريخياً. كان الاستعداد يسابق الوقت لإنجاز احتفالية حاشدة غير مسبوقة ستُمنح فيها نخبة من الشخصيات المرموقة الدكتوراه الفخرية.

كان لبنان خارج أسوار الجامعة الأميركية ليس كما في داخلها. ففي الخارج كان ما يزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري خارج الاستيعاب، وكانت توابع الزلزال تقدّم أخباراً مأساوية لا تنقطع، من باسل فليحان إلى سمير قصير إلى جورج حاوي.

حين استقبلَنَا الكاتب الصحافي جبران تويني مع والده الكاتب الكبير غسّان تويني في دار النهار، لم نكن نعرف أنّه الضحيّة التالية، والألم التالي.

داخل أسوار الجامعة الأميركية كان لبنان الذي يجب أن يكون: الدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، والأمير كريم الأغاخان رئيس مؤسّسة الأغاخان العالمية، والسيّدة فيروز أيقونة لبنان وشجرة أرْزها الخالدة.

كان ظهور السيّدة فيروز في أثناء استقبالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2020 أشبه بقمر أضاء عتمة الوطن

لقاء مع الأمير كريم الأغاخان

داخل قاعة أنيقة، وبينما كانت تجري بروفات الحفل، من ارتداء الأزياء الرسمية المعتادة في مراسم منح الدكتوراه الفخرية، إلى اختبار ترتيبات الحركة، والمرور، والصعود إلى المنصّة، حتى انتهاء الحفل، لم يكن لديّ ما أفعله، لكنّني كنتُ محظوظاً بالحضور. ولمّا سألني المهندس إبراهيم المعلّم رئيس دار الشروق وناشر كتاب أحمد زويل، الذي سبقنا إلى القاعة الرئيسية: “أين كنت؟”، قلت له: “كنتُ أجلس مع السيّدة فيروز، وأشهدُ جانباً من التاريخ”.

قام الدكتور زويل بتقديمي إلى الأمير كريم الأغاخان. وقد تحدّثنا بعض الوقت. بدَا الأغاخان شخصاً عصريّاً أكثر من كونه زعيماً دينياً. الأمير كريم هو الزعيم الروحي للطائفة الشيعية الإسماعيلية. وقد درس التاريخ الإسلامي في جامعة هارفرد، ويزيد عدد أتباعه على عشرة ملايين نسمة في العالم.

المذهب الإسماعيلي هو ثاني مذاهب الشيعة بعد المذهب الاثني عشريّ، وكان مذهب الدولة الفاطمية التي بُني في عهدها الأزهر الشريف في مصر. لذلك تحظى مصر لديهم بمكانة خاصة.

في مدينة أسوان، وقبالة فندق كاتراكت الشهير، يوجد ضريح الأغاخان الأب. تدعم مؤسّسة الأغاخان بعض المشروعات في العالم. وفي مصر أشرفت المؤسّسة على تحويل منطقة ترابيّة في حيّ الأزهر إلى ما يُعرف الآن بحديقة الأزهر أو حديقة الأغاخان، التي جرى تصميمها على غرار الحدائق الشهيرة في التاريخ الإسلامي، ويزورها أكثر من مليونَي شخص سنوياً.

لقاء مع فيروز

كان أمام الدكتور زويل والأمير الأغاخان عمل مهمّ يتعلّق بمراسم حفل تسليم الدكتوراه الفخرية. أمّا السيّدة فيروز التي ارتدت الزيّ الرسمي في منزلها، وفوّضت أحد الأشخاص إلقاء كلمتها بينما هي تتّخذ مقعداً رئيسياً على المنصّة، فلم يكن أمامها ما يشغلها في تلك الأثناء.

جلستُ قرابة الساعة مع السيّدة فيروز ننتظر نهاية الاستعداد وبداية الحفل. كانت أيقونة لبنان جالسةً في شكل هندسي ثابت فذكّرتني بتماثيل ملكات مصر الفرعونية.

بدت لي فيروز أجمل في الواقع من صورها التي تنشرها الصحف. إنّها تجمع خليطاً من الوقار الذي يقارب الجمود، والضحك الذي يقارب الفوضى.

بدأ الحديث مع فيروز بارداً وبطيئاً، ولا يخلو من الملل. كانت تتحدّث كأنّها تقرأ من ورقة كُتبت لها، وكثيراً ما كانت تستخدم كلمة واحدة أو كلمتين في ردودها. تغيّرت فيروز تماماً حين جاء إلينا الأستاذ غسان تويني للتحيّة، والحديث العابر، قبل أن يستعدّ بدوره لمراسم الحفل. لقد انفرجت أسارير فيروز على نحو مدهش عن ابتسامة عريضة، ثمّ ضحكات متواصلة.

كان من حظّي أنّي رأيت نصف فيروز الآخر الذي ضحك أكثر ممّا تكلّم، وتكلّم أكثر ممّا استمع.

في لبنان قتلت السياسة الثقافة، وإذا كان من طريق للخروج الآمن فلن يبدأ من دون أنْ تطرد العملة الجيّدة العملة الرديئة، وأنْ تقود المعرفة السلطة، وأن يعلو صوت فيروز على قصر بعبدا

ما يزال عندنا أمل

حكتْ لي السيّدة فيروز مواقف طريفة واجهتها في حياتها، وكان من بينها أنّها كانت تزور الصين، وفي أثناء وجودها في غرفة الفندق اتّصلت بصديقةٍ لها في لبنان بدافع “الدردشة” وقتل الفراغ.

اعتقدت مدبّرة المنزل الجديدة أنّها شخصية طفيليّة، ولم تتصوّر أنّها فيروز، فقالت لها حين اتّصلت: “سيّدة المنزل نائمة، من أنتِ؟”، أجابت: “أنا فيروز”.. قالت: “من فيروز؟ عرّفي نفسك.. هل تظنّين نفسك السيّدة فيروز؟”. فأكّدت لها: “نعم.. أنا السيّدة فيروز”. فردّت بألفاظ قاسية، ثمّ أغلقت الهاتف.

اتّصلت فيروز مرّة أخرى، فردّت السيّدة من الجانب الآخر: “أنتِ مرّة أخرى.. ماذا أفعل معك؟”.. قالت: “أنا فعلاً فيروز.. يجب أن تسمعيني”. قالت لها: “ومن أين تتّصلين يا ستّ فيروز؟”.. قالت: “من الصين؟”.. وهنا ردّت السيدة: “وكمان الصين”.. ثمّ توالت الألفاظ..!

بينما أنا جالس مع السيّدة فيروز جاء أحد أساتذة الجامعة الأميركية ليقول لها، وهو يتحدّث عن إحدى أغنياتها: “لقد بكيتُ وأنا أسمعكِ في قصيدة “زهرة المدائن”.. كان ما يزال عندنا أمل”. وكان ردّ السيّدة فيروز: “وما زال عندنا أمل”.

كان تفاؤل “اللبنانيّة الأولى” لأكثر من نصف قرن بعيداً عمّا يجري على بعد دقائق من الحفل.. اغتيالات، وديون، وسلطة مهترئة تتنافس على تقطيع أوصال الوطن.

المفارقة اللبنانيّة

كان ظهور السيّدة فيروز في أثناء استقبالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2020 أشبه بقمر أضاء عتمة الوطن. فمن مساحة كبيرة للظلام تمتدّ من قصور الحكم إلى مرفأ بيروت وبينهما مصرف لبنان، بدا ذلك الظهور النادر للسيّدة فيروز وكأنّه رجاء وبشرى بنهاية الخريف الطويل لذلك البلد الممتلئ بالربيع.

إقرأ أيضاً: روميو لحّود.. الفرح في زمن الحرب

ما زال الخريف ممتدّاً. وإنّ المرء ليعجب كيف لهذه الدولة الصغيرة أن تنجب أمثال جبران خليل جبران، وخليل مطران، ومايكل عطية، وفيروز، وأمين معلوف، ونخبة في الفنون والآداب، داخل البلاد وخارجها، وتظلّ أسيرة المجهول، كأنّما هي مدينة على جبل، ثمّ إذا هي تهوي باتجاه الوادي.

في لبنان قتلت السياسة الثقافة، وإذا كان من طريق للخروج الآمن فلن يبدأ من دون أنْ تطرد العملة الجيّدة العملة الرديئة، وأنْ تقود المعرفة السلطة، وأن يعلو صوت فيروز على قصر بعبدا.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@

 

مواضيع ذات صلة

إلى الدّكتور طارق متري: حول الحرب والمصالحة والمستقبل

معالي الدكتور طارق متري المحترم، قرأت مقالك الأخير، بعنوان: “ليست الحرب على لبنان خسارة لفريق وربحاً لآخر”، في موقع “المدن”، بإعجاب تجاه دعوتك للوحدة والمصالحة…

“حزب الله الجديد” بلا عسكر. بلا مقاومة!

أكّد لي مصدر رفيع ينقل مباشرة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله: “أنا لا أثق بأيّ اتّفاق مكتوب مهما كانت لديه ضمانات دولية من أيّ قوى…

هل تنأى أوروبا بنفسها عن عقدة محرقة غزّة؟

بعد 412 يوماً من الإمعان في إشعال المحرقة في فلسطين ولبنان، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمراً باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير جيشه المخلوع…

لبنان “صندوق بريد” بين إسرائيل وإيران

ما تسرّب من “المبادرة الأميركية” التي يحملها آموس هوكستين مفاده أنّه لا توجد ثقة بالسلطات السياسية اللبنانية المتعاقبة لتنفيذ القرار 1701. تقول الورقة بإنشاء هيئة…