هل تغيّرت قطر فعلاً؟

مدة القراءة 5 د


واحد من أبرز التغييرات التي يرصدها مسؤول عربي كبير، وسط زحمة الأحداث العربية والدولية، التغيير الذي أصاب أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني. “إنّه شخص آخر”، يقول المسؤول العربي، خطاباً ورؤيةً وتعقّلاً، ولا سيّما حين يتعلّق الأمر بتصوّره لعلاقات الدوحة بدول الجوار الخليجي. يسمع المرء تقديرات مشابهة من مسؤولين في عواصم خليجية كانت على عداء مع الدوحة، على الرغم من تعدّد التقديرات والتحليلات بهذا الخصوص.

الحدث المذهل
قبل انطلاق “كأس العالم – 2022” وبعده، كُتب الكثير عن التأثيرات التي سيتركها نجاح قطر في تنظيم هذا الحدث المذهل، وأنّه لن يكون مجرّد حدث رياضي آخر للدولة المضيفة. فقد أنفقت الدوحة نحو 200 مليار دولار على البنية التحتية تهيئةً لاستضافة كأس العالم، استُثمرت في الطرق والطرق السريعة والجسور وسبعة ملاعب جديدة، بالإضافة إلى بناء آلاف الغرف الفندقية والأبنية السكنية. وترافقت الاستعدادات لكأس العالم مع ورشة تشريعية وقانونية، ولا سيّما لتحديث قوانين العمالة، وأبرزها إبطال نظام الكفالة عام 2020. ولئن تعرّضت هذه التغييرات للكثير من الانتقادات والتقارير التي وصفتها بالمنقوصة أو المتأخّرة أو غير القابلة للديمومة، يظلّ التغيير الأكثر عمقاً هو ما أصاب الهويّة السياسية لقطر.
تُعدّ فعّالية “كأس العالم – 2022″، التي احتلّت المخيّلة القطرية لـ 12 عاماً منذ 2010، أوّل إطلالة من نوعها للإمارة الصغيرة على المسرح العالمي، بعدما كانت نافذتها على العالم ونافذة العالم عليها هي قناة “الجزيرة”، منذ أشرطة أسامة بن لادن بعد جريمة 11 أيلول 2001 حتى مقابلات أبي محمد الجولاني في عزّ زمن “النصرة والجهاد”، بما جعل من قطر مجرّد “دولة تلفزيونية عظمى” صارت مع الوقت المكتب الإعلامي الرسمي لكلّ فصائل الإسلام السياسي والإرهاب المتأسلم.

لم يكن صعباً على أمير قطر وهو يقف على مدرّجات الملاعب المبهرة التي بناها، أن يستنتج أنّه أفضل بكثير من أن يكون مجرّد وسيلة إخوانية قرضاويّة، في صراعات كادت أن تودي بعرشه

وربّما يكون من محاسن المفارقات أن يتزامن انطلاق المونديال في تشرين الثاني 2022 مع وفاة الداعية الإسلامي المؤثّر يوسف القرضاوي قبل الحدث بأسابيع في أيلول من العام نفسه، وغروب اللحظة الإخوانية التركيّة مع الاضطراب العميق الذي أصاب الاقتصاد التركي وسعي أنقرة المحموم للبحث عن حبال النجاة في أبوظبي والرياض والقاهرة. بدا هذا التزامن لحظة رمزية، تكثّف نهاية زمن قطريّ تجذّر عميقاً في الأجندة القومية والإسلامية، وبداية زمن آخر يشبه الحداثة التي أطلّت بها الدوحة على العالم.

الأمير تميم والهوية الوطنية
لم يكن صعباً على أمير قطر وهو يقف على مدرّجات الملاعب المبهرة التي بناها، أن يستنتج أنّه أفضل بكثير من أن يكون مجرّد وسيلة إخوانية قرضاويّة، في صراعات كادت أن تودي بعرشه. فبعد أربع سنوات من الصراع المرّ مع السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وختامها مصالحة العلا مطلع عام 2021، لا مهرب من استخلاص العِبر. نجح الأمير تميم في الحفاظ على المُلك وخسر معركة أخونة النظام السياسي العربي بدءاً من مصر. ربح النظام وخسر المشروع السياسي، ما فتح الباب على سؤال الهويّة والدور والمستقبل.
الأهمّ أنّ الأمير تميم نجح في توليد هويّة وطنية قطرية تتمحور حول الصورة الجديدة لبلده، مُقصياً بهدوء صورة أبيه عن المشهد السياسي، بعدما كان الأب هو الأمير الفعليّ للبلاد، ومُنهياً أيّ فرصة ولو ضئيلة لعودة رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني إلى أيّ شكل من أشكال الشراكة في الحكم، أو حتى الشراكة في الثروة التي يُقال أنّ أجهزة الأمير تطارد ما انتهى منها في خزائن الشيخ حمد.

لم تُعرف للهويّة الوطنية لقطر قبل الأمير تميم، أيّ صلابة تُذكر. كما أنّ استقرار الشخصية الوطنية ظلّ الأضعف بين الشخصيات الخليجية، بحيث إنّ قلّة قطريّة تستثمر أموالها داخل قطر، وكأنّها على أهبة الرحيل عند أوّل أزمة سياسية أو انقلاب آخر. القليل فقط من هذه الملامح يمكن رصدها اليوم في قطر، التي تبدو أكثر ثقة بنفسها وأوضح اندفاعاً من أيّ وقت سبق للتعبير عن الهويّة الوطنية القطرية.
ساعد كلّ ذلك الأمير الشابّ على تجاوز الأدوار الموروثة عن نظام أبيه، وعثر لنفسه ولشعبه على مصادر للثقة دون أن ينسى الأثمان التي دفعها لمناكفة السعودية أو التطاول على قادتها، ويبدو أنّه استخلص العِبر الضرورية من الأزمة الخليجية، وأبرزها أنّه يتعامل مع محيط لن يتهاون مع “الشغب” القطري وأنّ قدرة الإيذاء المضادّ للأذى القطري، صاعقة.

إقرأ أيضاً: حقل الدرّة: لماذا “تشاغب” إيران على اتّفاقها مع السعوديّة؟

الكثير من رواسب التجارب الماضية تدفع إلى الشكّ في ديمومة وثبات وعمق التحوّلات التي يرصدها البعض في سلوك قطر. وأكثر منها ما كُتب عن الحدود الضيّقة للتغيير الذي يمكن أن تُحدثه الفعّاليات الرياضية العالمية، ونموذجها الأبرز الألعاب الأولمبية في سوتشي الروسية – 2014 التي مرّت وكأنّ شيئاً لم يكن على مستوى قيم النظام الروسي وسلوك الدولة.
لكنّ ذلك لا يُلغي أنّ قطر أمام حقبة جديدة، تحمل وعداً بعلاقة مختلفة بين الدوحة ومحيطها، وإمكانية أن يكون إرث كأس العالم لحظة محورية في تاريخ شعب أعاد اختراع نفسه ودوره والأهم علاقاته بجيرانه.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…