تحت غطاء صعوبة أن يتحقّق التوازن بين الأمن والحرّية، حسب ما تدّعي المؤسّسات الأمنيّة عالمياً، أصبح العالم الآن في حقبة الممارسة الجماعية للرقابة. في الصين مثلاً، هناك 349 مليون كاميرا فيديو موزّعة في كلّ مكان. ما يعني أنّ عدد الكاميرات حول العالم قد يزيد عن مليار، أو مليارين حتّى. في نيويورك وحدها يوجد، حسب “أمنستي إنترناشونال”، 25,500 كاميرا فيديو للمراقبة. وما يثير الريبة أنّ أكثرها يقع في الأحياء التي يقطنها الأجانب و”الملوّنون”.
في عام 2018، توصّلت برامج “أي بي إم” إلى التعرّف على 77% من الوجوه غير البيضاء، وهذا يعني أنّ نسبة الخطأ هي 23%، وهو رقمٌ غير قليل ومن الممكن أن يؤدّي إلى مشاكل أمنيّة وأخطاء في الحكم على البعض كما حصل في عدّة ولايات.
في 24 حزيران 2020 في ولاية ديترويت، جرى توقيف رجل أسود عن طريق الخطأ بسبب استخدام الشرطة لتطبيقات التعرّف على الوجوه. في الولايات المتحدة، هناك العديد من الدعاوى التي تطالب بحجب هذا النوع من التطبيقات غير المعترف بها فدراليّاً، وبالأخصّ في التعامل مع السود الأميركيين والإسبان والأقلّيات الملوّنة بشكلٍ عامّ، المتّهمين بصورةٍ عامّة بغضّ النظر عن الحدث وما يحصل.
كما تُستخدم تقنيّة التعرّف على الوجوه بكثرة خلال التظاهرات لمقارنة صور شخصٍ ما من دون اسم مع صور عليها اسم للتعرّف من خلالها على الشخص وعنوانه وعلى أمورٍ عديدة عنه. وقد استُخدمت هذه التقنية من قبل الشرطة البريطانية، لكنّها لم تفلح في ذلك، إذ وصلت نسبة الخطأ إلى 81%.
إسرائيل… ومستقبل الشرطة
كشفت منظّمة العفو الدولية في تقرير مؤخّراً، أنّ “السلطات الإسرائيلية تستخدم نظاماً تجريبياً للتعرّف على الوجه يُعرف باسم “الذئب الأحمر”(Red Wolf) لتعقّب الفلسطينيين وجعل القيود القاسية المفروضة على حرّية تنقّلهم مؤتمتة”.
فيسبوك دفع لولاية إيلينوي (Illinois) 650 مليون دولار لوضع حدٍّ للدعوى التي تقدّمت بها مجموعة من المحامين، لأنّ الشركة خزّنت معطيات عن أشخاص من الولاية للتعرّف على الوجوه
في هذا التقرير الذي يحمل عنوان “الأبارتهايد الرقميّ”، توثّق المنظمة كيف يشكّل “الذئب الأحمر” جزءاً من شبكة مراقبة متنامية باستمرار ترسّخ السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين، وتساهم في الحفاظ على نظام الفصل العنصريّ، الذي تُطبّقه إسرائيل. ونظام “الذئب الأحمر” منشور عند الحواجز العسكرية في مدينة الخليل بالضفّة الغربية المحتلّة وفي القدس، ويعمل على مسح وجوه الفلسطينيين ويضيفها إلى قواعد بيانات ضخمة للمراقبة بدون موافقتهم.
تقنيّة التعرّف على الوجوه هي المستقبل، كما تقول كلّ أجهزة الشرطة والمخابرات في العالم. فإذا كان التعرّف على هويّة شخصٍ معيّنٍ يتطلّب عدّة سنوات للتأكّد من هويّته، بات الأمر الآن يتمّ بدقائق معدودة.
ولا يقلّ خطراً ما يحصل الآن من ممارسة هذه التقنيّة لإنتاج ما يُسمّى التزييف العميق “deepfakes”، وهو عبارة عن مقاطع فيديو مزيّفة تُعرَض فيها شخصيّات تقرأ خطابات لم تكتبها بل كُتبت من آخرين، وتوحي أنّ الشخصيّة هي من تتلفّظ بهذه الكلمات.
من أين يؤتى بكلّ هذه الصور؟
هذا في الأمن والسياسة. في المال والاقتصاد، على سبيل المثال يبيع فيسبوك هذه الصور إلى مؤسّسات، وخاصة إلى أجهزة المخابرات، لأنّه يمتلك صوراً لكلّ مستخدميه.
فيسبوك سيدفع مبالغ من المال لأنّه استخدم معلومات بيبليومترية من دون أن يأخذ الإذن من المستخدمين، وذلك بعد “تيك توك” التي دفعت مبلغ 92 مليون دولار لأنّها استثمرت معطيات شخصية في أميركا.
فيسبوك دفع لولاية إيلينوي (Illinois) 650 مليون دولار لوضع حدٍّ للدعوى التي تقدّمت بها مجموعة من المحامين، لأنّ الشركة خزّنت معطيات عن أشخاص من الولاية للتعرّف على الوجوه.
المعلومات البيبليومترية جُمعت دون معرفة أهالي الولاية: جرى مسحٌ لصور 1.6 مليون مستخدم لفيسبوك من هذه المقاطعة دون معرفتهم. جرت هذه الدعوى الجماعية في 2015 من بعض المحامين في الولاية لعددٍ من المدّعين. اعتُبر هذا المسح المعلوماتيّ خرقاً لحرّيّة الأفراد. ربح المدّعون الدعوى لأنّها دعوى عامّة، واعتُبر هذا التعدّي من أكبر الفضائح العالمية لاغتصاب حرّية الأفراد. دفعت فيسبوك 5,000 دولار لكلّ مستخدمٍ مدّعٍ و345 دولاراً لـ1.6 مليون مستخدم آخر. بعد ذلك، أصبحت فيسبوك تستخدم تطبيق التعرّف على الوجوه لكن من خلال طرح فكرة القبول أو عدمه على المستخدم.
إذا كانت هذه التقنيّة مفيدة للتعرّف على المجرمين والجواسيس، فهي أيضاً وسيلة للمراقبة الدائمة لكلّ بني البشر وتساهم في الحدّ من حرّيّتهم
قرصنة 30 مليار صورة!
حاليّاً، أكبر مؤسّسة تمتلك بيانات هي “كليرفيو إي آي” Claireview AI، التي وُجّهت دعاوى ضدّها لأنّها قرصنت 30 مليار صورة في بنك معلومات مجمّعة لدى لينكدإن وفيسبوك مع المعلومات الشخصية عن الأفراد. وتطمح إلى امتلاك 100 مليار قريباً، أي أنّها ستمتلك 14 صورة لكلّ مقيمٍ على الأرض.
جُمعت الصور من دون أخذ إذن، ولذلك ستواجه عدّة دعاوى في أوروبا نظراً لأنّها جمعت المعلومات بطريقةٍ غير قانونية لا يسمح بها القانون الفرنسي، وخاصة المركز الوطني للمعلومات والحرّية (CNIL)، وقد غُرّمت 20 مليون يورو لانتهاكها حرّية الأفراد.
يُعتبر هذا الأمر انتهاكاً للخصوصية الفردية حتى أصبحت عالميةً قضيّةُ اتّهام كليرفيو بأنّها تمارس المراقبة الموسّعة والتجسّس العامّ. وتشير كلّ التقارير المناهضة للشركة إلى أنّ كليرفيو لها علاقة باليمين المتطرّف الذي يطمح إلى السيطرة على العالم. وُلدت عمليّاً هذه الشركة من رحم دونالد ترامب. ويلفت أحد شركاء المؤسّسة، وهو مستشار لترامب، إلى أنّ التقنيّات أفضل من السياسة.
إذا كانت هذه التقنيّة مفيدة للتعرّف على المجرمين والجواسيس، فهي أيضاً وسيلة للمراقبة الدائمة لكلّ بني البشر وتساهم في الحدّ من حرّيّتهم. فالمراقبة تضعنا دائماً في دائرة الشكّ، كما يقول المدافعون عن حرّية الأفراد، وحتى لو كانت الدواعي أمنيّة فإنّ الهدف هو المراقبة.
استعمال بصمة الوجه لـ”الأمان”
ولأنّ الوجه يشبه البصمة أو الصوت، وفريدٌ من نوعه وله خصائص لا تضاهى، تُستخدم هذه التقنيّة في حالاتٍ عديدةٍ كالمصادقة لجعل تسجيل الدخول إلى التطبيقات الذكية أكثر أماناً، والوصول إلى التطبيقات المحمولة بدون كلمة مرور، والوصول إلى الخدمات عبر الإنترنت التي تمّ الاشتراك فيها مسبقاً، والوصول إلى المباني (مكتب، مناسبات، منشآت بجميع أنواعها، إلخ)، وطريقة الدفع، سواء في المتاجر الفعليّة أو عبر الإنترنت، والوصول إلى جهاز مغلق وتسجيل الخدمات السياحية (مطارات، فنادق، إلخ).
وقد بدأت المحاولات الأولى للتعرّف على الصور والأشكال من خلال برمجيات معلوماتية عام 1973، وذلك في أطروحة الباحث “تاكيو كانادي” أثناء دراسته الدكتوراه في جامعة كيوتو.
إقرأ أيضاً: مُلاكمة مارك وماسك: صفعة “ثريدز”.. وخسائر تويتر
اليوم، للتحقّق من بصمة الوجه، يتطلّب الإجراء ببساطة استخدام جهاز مزوّد بتقنية التصوير الرقمي، التي تكون إمّا ثنائية الأبعاد أو ثلاثية الأبعاد، للحصول على الصور والبيانات اللازمة لإنشاء وتسجيل بنية الوجه البيومترية للشخص المراد تحديد هويّته.
تجري مقارنةٌ المعلومات الواردة في الوقت الفعليّ والآتية من صورة أو مقطع فيديو مع قاعدة بيانات مخزّنة مسبقاً. ويتطلّب إجراء التعرّف على الوجه بالمقاييس الحيوية اتصالاً بالإنترنت، إذ لا يمكن وضع قاعدة البيانات في جهاز الإدخال نظراً لأنّها تتطلّب خوادم مخصّصة لذلك.
كلّ هذه التجاوزات أدّت إلى أن صادق نواب البرلمان الأوروبي في 14 حزيران على قانون يضع قواعد للحد من المخاطر المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. هذا القانون سيصبح ساري المفعول عندما يتم التصديق عليه من قبل الدول الأعضاء. أمّا المهم من كلّ ذلك، فهو وضع قوانين لاحترام حقوق الانسان والبيئة وعدم التحكم بسلوكيات الأطفال. لكنّ العبرة تبقى في التنفيذ.