تطرح الظروف التي أحاطت بحادثة قرية البستان الحدودية القريبة من الناقورة أكثر من علامة استفهام. يكاد الباحث عن حقيقة ما جرى لا يجد أيّ مؤشّر حقيقي أو موضوعي للبناء عليه، وهو ما يدفع إلى التساؤل: هل وقعت حادثة حقيقية على الحدود؟ أم ما جرى هو توليفة لمجموعة معطيات مشكوك في مصداقيتها جمعت بين بيان غير واضح للعدوّ الإسرائيلي تمّ الترويج له في الإعلام، وموقف مبهم للحزب، ودائماً وأبداً غياب تامّ للدولة اللبنانية ومؤسّساتها وفي مقدَّمها مجلس الوزراء وكأنّ ما حصل كان في كوكب آخر؟
يقول الأمين العام للحزب في كلمته الأخيرة إنّ ما جرى في قرية البستان هو قيد التحقيق، فيما يعترف المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي بأنّ “عدداً من المشتبه بهم اقتربوا في وقت سابق من اليوم (الأربعاء) من السياج الأمني على الحدود مع لبنان وحاولوا المساس بمنطقة العائق الأمني، فرصدتهم قوات جيش الدفاع مباشرة واستخدمت وسائل لإبعادهم”. ولفت أدرعي عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أنّ “هويّة المشتبه بهم غير معروفة”. وبالتوازي تناقلت مصادر إعلامية الحديث عن وقوع انفجار في قرية البستان التي هي منطقة غير مأهولة أدّى إلى إصابة خمسة عناصر من الحزب.
تطرح الظروف التي أحاطت بحادثة قرية البستان الحدودية القريبة من الناقورة أكثر من علامة استفهام. يكاد الباحث عن حقيقة ما جرى لا يجد أيّ مؤشّر حقيقي أو موضوعي للبناء عليه
بعد ذلك ولمزيد من الضبابية، أضافت نائبة مدير المكتب الإعلامي لـ “اليونيفيل” كانديس أرديل في بيان أنّ “بعثة الأمم المتّحدة لحفظ السلام على اطّلاع على التقارير المقلقة عن حادث وقع على طول الخط الأزرق”، وأنّ “الوضع حسّاس للغاية، ونحثّ الجميع على وقف أيّ عمل قد يؤدّي إلى تصعيد من أيّ نوع”.
ماذا يعني وصف الشبّان بالمشتبه بهم واعتبار هويّتهم غير معروفة؟ وماذا يعني استخدام الجيش الإسرائيلي وسائل لإبعادهم؟ وما هي هذه الوسائل؟ ثمّ كيف نصدّق أنّ مجموعة منهم أصيبت بجروح من دون أن تتوافر أيّ معلومات للحزب أو للأجهزة الأمنية اللبنانية أو لقوات اليونيفيل عن المشتركين في الحادثة وحقيقة حدوثها؟ ثمّ ماذا يعني بيان اليونيفيل عن حادث وقع “على طول الخطّ الأزرق” من دون تحديد المكان أو أيّة تفاصيل أخرى؟ هل تشكّل الحادثة نموذجاً مشابهاً لحوادث إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان التي تُنسب إلى فصائل فلسطينية غير معروفة ويتّفق كلّ المعنيين على طرفَيْ الحدود على تجهيل الفاعل، ولا سيّما أنّ منطقتَيْ القليلة والبساتين غير مأهولتين وتتيحان المجال لسيناريوهات عديدة؟ أم ما جرى في حال حصوله فعلاً كان نتيجة خطأ في تنسيق أحد الأنشطة غير الشرعية العابرة للحدود التي اقتضت كلّ هذه التوليفة الإعلامية للتغطية عليها؟
لا شكّ أنّ تتابع مجموعة من الأحداث الحدودية من خيمة الحزب في مزارع شبعا التي لا تعترف سوريا الأسد بلبنانيّتها وانتهاءً بقرية البستان غير المأهولة مروراً بالاحتلال الإسرائيلي لخراج بلدة الماري اللبنانية، التي يصرّ الحزب ومعه الأجهزة الرسمية اللبنانية على تسميتها بالجزء الشمالي لقرية الغجر السورية المحتلّة، وتزامن ذلك مع وجود الوسيط الأميركي آموس هوكستين في إسرائيل، يعيدان مسألة تثبيت الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل إلى واجهة الاهتمام، ولا سيّما أنّ اتّفاقية الهدنة الموقّعة عام 1949 هي وثيقة دولية لا يمكن تجاوزها، وأنّ لبنان وإسرائيل ملزمان بتطبيقها والأمم المتّحدة ملزمة بفرض ذلك على الطرفين.
تقضي الحقيقةُ مصارحةَ الحزب بأنّ اللبنانيين لن يستسلموا لفكرة التعايش مع السلاح، وأنّ ما سمّاه الحزب تكاملاً مع الدولة لم يكن سوى جزء من معادلة إقليمية لا شأن لها بالطائف الذي اتّفق عليه اللبنانيون
لا بدّ في هذا السياق من التوقّف عند ما ورد في كلمة الأمين العام للحزب حسن نصرالله عن مسألة الحدود البرّية الذي بدا بمنزلة تسليم برتابة الوضع القائم يستلزم معه التسليم بسلاح الحزب:
– أوّلاً، اعتبر نصرالله النقطة B1 (رأس الناقورة) إحدى النقاط المتنازَع عليها وتجاهل إسقاطها من الاعتبار كنقطة مرجعية أكّدت اتّفاقية الهدنة على لبنانيّتها وكان ينبغي الاستناد إليها لدى ترسيم الحدود البحرية. ما جرى في حينه كان استحداثاً لنقطة في البحر تبعد 6 كلم عن الشاطئ بموافقة الدولة اللبنانية نزولاً عند إصرار إسرائيل ومعها الوسيط الأميركي على ذلك، ففقد لبنان 1,300 كلم مربّع من حقوقه، واعتبر الحزب ذلك إنجازاً يجب حمايته.
– ثانياً، إنّ من دواعي الاستغراب تجاهُل نصرالله الاحتلال الإسرائيلي لخراج بلدة الماري والإصرار على استخدام عبارة “الجزء الشمالي لقرية الغجر التي أعاد العدوّ الإسرائيلي احتلالها” لتوصيف الاحتلال القائم لأرض لبنانية لا يوجد أيّ تحفُّظ عليها، في حين أنّ الغجر محتلّة منذ عام 1967، وهي قرية سورية لا يختلف اثنان على ذلك، وليس من خلاف مع سوريا حيال ذلك، وليس من وضع إنساني يحول دون المطالبة الفورية بها.
– ثالثاً، ما هو الموقف حيال وضع مزارع شبعا في حال بدء التفاوض لتثبيت الحدود البرّية وإصرار سوريا على عدم الاعتراف بلبنانيّتها؟ ربّما يجوز استخدام كلمة ترسيم في هذه الحالة لأنّ المفاوضات السورية اللبنانية حول المزارع لم تأتِ بنتيجة تذكر على الرغم من وجود الوثائق العقارية لدى محافظة لبنان الجنوبي.
يقول نصرالله إنّ “مسألتنا لا مسألة تعديل نظام ولا تعديل دستور ولا تغيير بالطائف. تحبّون أن يطبَّق الطائف، يا الله، بقيّة اللبنانيين يريدون أن يطوّروا الطائف نحن حاضرون أن نسير معهم”. وفي ما يشبه استخدام التنويم المغناطيسي وإدخال اللبنانيين في حال قدريّة للاستسلام للوضع القائم يقول نصرالله: “ماذا تريدون فنحن جاهزون. الجهد سيكون متكاملاً بين الدولة والمقاومة، وهنا معنى أن نتكامل ونتعاون، وكلّ شخص يقوم بوظيفته وكلّ شخص يقوم بعمله ولا أحد يلغي الآخر. ماذا فعلنا بالنفط والغاز وترسيم الحدود البحرية، تكاملنا اليوم أيضاً، بالتكامل والتعاون بين الدولة وبين المقاومة وبإسناد من الشعب اللبناني والقوى السياسية في لبنان، نحن نستطيع أن نستعيد أرضنا المحتلّة في بلدة الغجر”.
إقرأ أيضاً: التوتّر “المنضبط” جنوباً يرافق تفاوض إيران وأميركا مجدّداً؟
هل ينبغي أن نصدّق فعلاً أنّ الحزب لا يدرك حجم الهوّة التي أرساها بينه وبين سائر اللبنانيين، ومنهم الشيعة الذين يعون تماماً مخاطر الاستمرار في إسقاط فكرة الدولة؟ وهل يصدّق الحزب أنّه ليس جزءاً من هذه الدولة الفاشلة بشكلها ودورها المتعارف عليهما التي يشكّل بممارساته وتجاوزاته سبباً رئيساً من أسباب إخفاقها؟
تقضي الحقيقةُ مصارحةَ الحزب بأنّ اللبنانيين لن يستسلموا لفكرة التعايش مع السلاح، وأنّ ما سمّاه الحزب تكاملاً مع الدولة لم يكن سوى جزء من معادلة إقليمية لا شأن لها بالطائف الذي اتّفق عليه اللبنانيون. فهل يتّسع الطائف لدولتين في الوقت عينه؟
* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات