حكايات الغجر والخيم: خطوط الدول… والزواريب

مدة القراءة 5 د


يُحكى عن الراحل كمال جنبلاط أنّه كان يبدأ حديثه مع رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، من الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، مروراً بالولايات المتحدة الأميركية والحرب في كوبا… فكان شهاب يقاطعه ويسأله: “ما هي المشكلة التي يجب حلّها في الجبل؟”، وينتهي النقاش بنقل موظّف أو تعيين آخر أو إدخال شابّ إلى سلك وظيفي.

كانت “السياحة السياسية” الجنبلاطية، تبدأ بمزاج “غجريّ”، وإحدى حكايات الغجر أنّ أصولهم هندية. ولجنبلاط الأب علاقة عتيقة وعميقة مع الهند وفلاسفتها. لكنّها تنتهي في إمارة الجبل، تحت ظلال المختارة.

كان جنبلاط واحداً من كبار السياسة في لبنان، واهتماماته متنوّعة، من مواجهة الاستعمار والاستكبار، إلى مواجهة “السجن العربي الكبير”… لكنّ إدارة شؤون طائفته كانت لها رتبة أساسية في سلّم أولويّاته.

اليوم يشبهه كبار السياسة في لبنان. يتحدّثون عن اتفاق الصين، ويمارسون السياحة التحليلية من الخليج إلى أميركا، وصولاً إلى روسيا وأوكرانيا، لكنّهم يتابعون مزاج المخاتير والوجهاء في أريافهم، ويراقبون تحوّلات الآراء على مواقع التواصل. عقولهم تراقب CNN، وقلوبهم في صناديق الاقتراع، من النقابات والمهن الحرّة، إلى المخاتير والبلديّات، وطبعاً أحلام “النمر الزرقاء”.

كانت “السياحة السياسية” الجنبلاطية، تبدأ بمزاج “غجريّ”، وإحدى حكايات الغجر أنّ أصولهم هندية. ولجنبلاط الأب علاقة عتيقة وعميقة مع الهند وفلاسفتها. لكنّها تنتهي في إمارة الجبل، تحت ظلال المختارة

المجاز والواقع

السياحة الغجرية تعود اليوم إلى أصولها. بل هي تُسقط “المجاز” على أرض الواقع. فلا تحليل ولا زيارات فكرية لدول المواجهة والقوى العظمى. بعض الشباب قرّروا في 21 حزيران الفائت أن ينصبوا خيمتين، واحدة داخل الأراضي الفلسطينية – أو السورية – أو اللبنانية – المحتلّة، وأخرى داخل الأراضي اللبنانية المحرّرة.

هكذا وصلوا ومعهم مولّدات كهربائية و”المونة” وبعض الأسلحة، وافترشوا أرض الحدود، بين الخطوط الدولية، الأزرق منها والرسميّ والوهميّ، الإسرائيلي والسوري واللبناني والفلسطيني. شبكة خطوط تحتاج إلى أمم متحدة كي تفصل أزرقها عن أحمرها، وقد تنفجر بوجه من يحاول تفكيكها، كما في أفلام الإثارة والتشويق الهوليوودية… هناك افترشوا الأرض والحدود والمعنى والمجاز والواقع، وقرّروا “اختراع” ورقة تفاوضية جديدة، اسمها “الخيمة”.

سريعاً ردّ عليهم الإسرائيلي بضمّ الجزء اللبناني من قرية الغجر الواقعة خارج الأراضي الرسمية اللبنانية. تلك التي تبيّن أنّ أهلها بنوا عقاراتٍ على أراضٍ لبنانية، فتداخل التحرير بالاحتلال، و”ضاعت الطاسة”.

“ضاعت” بين “الغجر” و”خيم الحزب”، التي لا نعلم من أين وُلدت فجأة، لنصير أمام “ميني مخيّم” على تخوم مزارع شبعا من الناحية اللبنانية.

تفتّق عقل ذكيّ جدّاً عن “لعبة الخيم” في لحظة متوتّرة جدّاً داخل إسرائيل ومن حولها، لحظة “ثورة” شعبية ضدّ حكومة بنيامين نتانياهو، وتصاعد العمليات العسكرية والشعبية ضدّ قوات إسرائيل في الضفّة الغربية، وخلاف إسرائيلي حادّ وعلنيّ مع إدارة جو بايدن في البيت الأبيض، وأزمة “فراغ” رئاسي بدأ ينسحب على معظم مؤسّسات الحكم في لبنان، سواء الأمنيّة أو العسكريّة أو الماليّة.

لكن من يعرف الحزب وعقله يدرك أنّ هذا النوع من التحرّكات الميدانية يكون محسوباً بدقّة، من الخطّ الأزرق على حدود “الخيمة”، وصولاً إلى الخطّ الأحمر في قلب طهران. وغالباً ما يكون الخيط الواصل بين الخطّين قادراً على حمل رسائل لا تبدأ بانتخابات الرئاسة اللبنانية، ولا تنتهي في الصين، وما أدراك ما الصين.

كان جنبلاط واحداً من كبار السياسة في لبنان، واهتماماته متنوّعة، من مواجهة الاستعمار والاستكبار، إلى مواجهة “السجن العربي الكبير”… لكنّ إدارة شؤون طائفته كانت لها رتبة أساسية في سلّم أولويّاته

Missed Call“.. و”الرقم غلط”

في ذكرى حرب تموز 2006، سمحت هذه الخيمة للأمين العامّ للحزب أن يسترجع شيئاً من دوره الأصلي، ومن صورته التي يحبّها هو، ويحبّها أبناء بيئته، وهو الحديث عن الحدود والحرب وتهديد إسرائيل والأخبار المشوّقة الآتية عن مسيّرة قصفت مقاتلين للحزب، وصاروخ غير مؤكّد سقط في شمال فلسطين المحتلّة، أو ربّما يكون لغماً انفجر…

خرج الأمين العامّ إلى جمهوره في الذكرى الـ17 للحرب، واستطاعت هذه الخيمة أن تخرجه من نظريّات زراعة البلاكين والانتصار على الدولار واتّهام أعدائه بالتآمر عليه (أصلاً هذا واجب الأعداء!) وعلى سلطته وحكومته ورئيسه السابق في لبنان.

لكنّ الأهمّ في “حكاية الخيمة” أنّها تقول للّاعبين في الداخل اللبناني إنّ هناك لاعباً كبيراً يلاعبهم على “خطوط الدول”، بألوانها وجيوشها ومؤسّساتها الأمميّة، وطائراتها المسيّرة وأقمارها الصناعية.

فوراً وصل آموس هوكستين إلى إسرائيل. هو الذي “أنجز” الترسيم البحريّ بين لبنان وإسرائيل بموافقة إيران. وهناك بحث مع نتانياهو “الترسيم البرّيّ” مع لبنان وحكاية الخيم والغجر.

الأرجح أنّ الـ”Missed Call” فهمه الإسرائيليون بطريقة خاطئة، أو أنّ “الرقم غلط”. كذلك أخطأ هوكستين. الاتصال كان المقصود به الداخل اللبناني، بعد مناورات “العيشية” والأحزاب الرديفة، وبعد صواريخ التضامن مع فلسطين من سهول الموز وجمهوريّاته والتباسات المخيّمَين الفلسطينيَّين في مدينة صور.

إقرأ أيضاً: سلاح الحزب من الغجر على الطريق إلى بعبدا

لنا هنا أن نتذكّر الراحل كمال جنبلاط، فربّما نجد من يسأل منظّمي المخيّم السياحي، بين الخيم والغجر، معنىً ومجازاً: “ما هي المشكلة التي يجبّ حلّها؟”. والجواب معروف، وللصدفة، فهو في “الجبل” أيضاً، حيث كان جنبلاط يزور شهاب، ويتفاهمان، بعيداً عن السياحة السياسية.

لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…