في 6 حزيران الماضي، زار وفد من الجماعة الإسلامية السفارة التركية. الوفد الذي ضمّ نائب الجماعة عماد الحوت ورئيس مكتبها السياسي علي أبو ياسين ونائبه بسام حمود وعضو المكتب أسامة أبو مراد، التقى السفير التركي علي باريش أولوصوي لتقديم التهنئة باسم الجماعة لمناسبة إنجاز الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، و”أثنى على الديمقراطية التركية التي أظهر فيها الشعب التركي وعياً ورقيّاً وحضارة”، و”أشاد بالقيادة التركية برئاسة الرئيس رجب طيب إردوغان التي وقفت على الدوام مع قضايا الشعوب العربية والإسلامية المحقّة”.
ازدواجيّة وتقيّة
الزيارة والبيان الصادر عنها يمكن اعتبارهما يمثّلان أعلى معايير الازدواجيّة، ويعبّران عن قدر هائل من التقيّة التي تغلّف سلوكيّات الجماعة الإسلامية، ولا سيّما في الآونة الأخيرة. وذلك بالاستناد الى ما شاب انتخابات الجماعة الداخلية الأخيرة من التفاف على الديموقراطية وليّ عنقها. زدْ عليها المعلومات التي تشير الى تأييد القيادة ائتلاف المعارضة في الانتخابات التركية، وأنّها أوعزت الى مناصريها من حملة الجنسية التركية بالتصويت لحزب السعادة في البرلمانيّات، وكمال كليتشيدار أوغلو مرشّح المعارضة في الرئاسيّات.
ليس ذلك فحسب، بل إنّها سعت إلى تحريض الجاليتين اللبنانية والعربية من أجل فعل الشيء نفسه. بالطبع ليس لعديد هذه الأصوات تأثير يُذكر في مسار الانتخابات، لكنّ القرار يختزن الكثير من الرمزيّات. مع ذلك كان عدد من استجابوا لمساعي الجماعة محدوداً جدّاً، ذلك أنّ العرب في تركيا كانوا يعيشون قلقاً عميقاً من إمكانية ترحيلهم في حال فوز ائتلاف المعارضة، نظراً لكمّ المشاعر العدائية الهائلة للعرب التي كان يُظهرها أنصارها في الشارع.
ينفي مصدر قيادي في الجماعة هذه المعلومات، ويتحدّث عن “وجود عدد من المنّظمين المُقيمين في تركيا وبعضهم حاصل على الجنسية”، وأنّ هؤلاء “التزموا بقرار القيادة بالتصويت لإردوغان في الرئاسيّات
في المقابل، ينفي مصدر قيادي في الجماعة هذه المعلومات، ويتحدّث عن “وجود عدد من المنّظمين المُقيمين في تركيا وبعضهم حاصل على الجنسية”، وأنّ هؤلاء “التزموا بقرار القيادة بالتصويت لإردوغان في الرئاسيّات، وحزب العدالة والتنمية في البرلمانيّات. قد يكون هناك أشخاص مقرّبين من الجماعة إنّما غير منظمين فيها صوّتوا لحزب السعادة”.
بيد أنّ قرار الجماعة الإسلامية بدعم حزب السعادة يعدّ في حدّ ذاته موقفاً طبيعياً ومنسجماً مع أيديولوجيتها الإخوانية، وفي الوقت نفسه يعدّ استكمالاً لمسار تحوّلاتها الأخيرة نحو محور الممانعة والحزب وإيران، بدفع من حركة حماس. ويعبّر أيضاً عن الأزمة العميقة التي يعاني منها تنظيم الإخوان المسلمين وانقساماته بين “محور إسطنبول” و”محور لندن”، واستغلال حركة حماس هذه الأزمة من أجل مدّ نفوذها على الأفرع الإخوانية في لبنان وتركيا وغيرهما، انطلاقاً من حضورها القوي وإمكانياتها التنظيمية والماليّة التي تجعلها تسيطر على توجّهات التنظيم وقراراته في المستقبل.
حزب السعادة: إخوان تركيا
يرى أغلب المتابعين العرب أنّ حزب العدالة والتنمية بقيادة إردوغان يمثّل إخوان تركيا. بيد أنّ التيار الإخواني في تركيا يمثّله حزب السعادة، الخامس في سلسلة الأحزاب التي أسّسها “أبو الإسلام السياسي” في تركيا الزعيم الراحل نجم الدين أربكان.
صحيح أنّ “العدالة والتنمية” خرج من رحم التيار الأربكانيّ، لكنّه ليس إخوانياً، بل أصل خروج قياداته عن مشيئة “البروفسور” كانت المراجعات التي أجروها وخلصت إلى تأسيس حزب براغماتي محافظ يمزج بين القومية التركية والمبادئ الإسلامية.
هذه البراغماتية هي التي جعلته يحاول الاستفادة من ثورات الربيع العربي في سياسته الخارجية من أجل تحويل تركيا إلى لاعب إقليمي مؤثّر لا يمكن تجاوزه. وهذه البراغماتية نفسها تجعله يرشّح أشخاصاً يمثّلون مختلف الشرائح الاجتماعية في تركيا، مثل ترشيحه ملكة جمال تركيا السابقة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وقد أصبحت اليوم نائبة، بالإضافة إلى عدد من أهل الفنّ وآخرين من فئة “اللايت علمانيين”. يعدّ كلّ ذلك من المحرّمات الإخوانية، فلا يمكن أن نجد يوماً أن الجماعة الإسلامية ترشّح سيّدة غير محجبة، فكيف بملكة جمال سابقة؟ والحال عينه ينطبق على حركة حماس بشكل أشدّ، وعلى باقي التنظيمات الإخوانية.
في حين تقوم فلسفة أربكان السياسية على فكرة “الأممية” الإسلامية، يتبنّى حزب السعادة أيديولوجية “الرؤية الوطنية” التي تهدف إلى توحيد الدول الإسلامية، وإقامة “عالم جديد عادل”، وهو أهمّ شعارات أربكان منذ تسعينيات القرن الماضي، التي سعى إلى تحقيقها إبّان رئاسته للحكومة التركية عام 1996، من خلال إنشاء “مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية” عام 1997. مجموعة ضمّت إلى تركيا كلّاً من مصر وإيران وإندونيسيا وبنغلاديش وماليزيا وباكستان ونيجيريا. لكنّ انقلاب “ما بعد الحداثة” الذي قام به الجيش التركي وإجبار أربكان على الاستقالة، جمّد الفكرة الوليدة في بداياتها.
الأخوّة مع إيران
تركّز أيديولوجية حزب السعادة في السياسة الخارجية على التهديدات التي يمثّلها “مشروع الشرق الأوسط الكبير” و”سياسات الغرب العداونية ضدّ إيران ودول المنطقة الأخرى على أسس مصطنعة”. والمصطلح الأخير هو مصطلح أمميّ إسلامويّ يُكثر من استخدامه نظام الملالي الإيراني في أدبيّاته، وكذلك الحزب.
ما ورثه حزب السعادة عمليّاً من إرث أربكان وأفكاره الخلّاقة كان فقط العلاقة مع إيران، التي حرص على تطويرها وصولاً إلى تبنّي الرؤية الإيرانية للمنطقة، ومنها الموقف العدائي من الثورة السورية، مقابل جفاء وشبه انقطاع مع باقي أعضاء “الثماني” ومن خلفهم الامتداد الإسلامي العريض.
مطلع عام 2012 زار رئيسه مصطفى كامالاك دمشق على رأس وفد من قيادات الحزب، والتقى رأس النظام فيها في ذروة قمع الأخير التظاهرات الشعبية وقصفه المدن والأحياء بالبراميل المتفجّرة.
وخلال الزيارة أهداه الوفد الذي كان من أعضائه رئيسه الحالي تمل كرم الله أوغلو لوحة من الفنّ الإسلامي فيها رسم للآية الكريمة “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”.
في شباط 2015، دعا حزب السعادة الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد إلى حضور مؤتمر إحياء الذكرى الرابعة لوفاة نجم الدين أربكان في مدينة بورصة، وأن يكون فيه ضيف شرف، وكانت له كلمة بالمناسبة.
في عام 2021، شارك حسن بيتماز نائب رئيس حزب السعادة في برنامج نظّمته السفارة الإيرانية في أنقرة لإحياء الذكرى الأولى لاغتيال قاسم سليماني، وهو ما أثار ردود فعل واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي في تركيا ضدّ “السعادة” الذي يعتبر سليماني “شهيد المقاومة”. وقد اعترف بيتماز نفسه في تصريحات صحافية أنّه التقاه في طهران مرّتين. وهذا التماهي الكبير مع نظام الملالي أدّى إلى وصف حزب السعادة بـ”الإيراني”.
على الرغم من أنّ حزب السعادة لم تتجاوز نسبة مؤيّديه عتبة 5% منذ تأسيسه، ولم ينجح في دخول البرلمان إلا عام 2018 بعد انضمامه إلى تحالف المعارضة، وهو ما تكرّر في الانتخابات الأخيرة، إلا أنّه يمتلك قدرة لا يستهان بها على الحشد الجماهيري وجمع التبرّعات، وبخاصّة في المناسبات ذات الطابع الإسلامي. ويرتكز “السعادة” في ذلك على امتلاكه عدداً لا بأس به من الصحف اليومية والأسبوعية ومجلات دورية ومحطة تلفزيونية. وهذه الشبكة مكّنته من الحفاظ على حضوره في المشهدين السياسي والإعلامي.
روافد “حماس” الماليّة
بين هذه التبرّعات، ثمّة رافد مالي شبه ثابت يذهب لدعم حركة حماس، التي يلتقي رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنيّة بزعيم الحزب تمل كرم الله أوغلو بشكل دائم في زياراته الدورية، بما يعكس مدى عمق العلاقة بين “السعادة” و”حماس”. بيد أنّ الأخيرة لا تعتمد فقط على التبرّعات، بل لديها روافد ماليّة أهمّ بكثير.
في آب 2021، نشرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية تقريراً استند إلى وثائق حصلت عليها من مصادر أمنيّة غربية، كشف أنّ لحركة حماس محفظة استثمارية سرّية تضمّ نحو 40 شركة دولية تنشط خاصة في قطاع البناء، وتناهز قيمتها نصف مليار دولار.
لكنّ المثير في ما ذكرته “دي فيلت” أنّ رأس هذه المحفظة الاستثمارية في تركيا التي نقلت إليها “حماس” عام 2018 الكثير من أعمالها هرباً من العقوبات، هو شخص مقيم في لبنان ويسافر بشكل متكرّر إلى تركيا. ليس هذا الشخص سوى صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي كان يشرف في السنوات السابقة على مكتبها في تركيا، ويشكّل قناة تواصل بين “حماس” وحزب السعادة.
يعدّ العاروري أحد العقول البارزة في حركة حماس، لكنّه يميل إلى العمل في الظلّ. سجنته قوات الاحتلال لأكثر من 18 عاماً قبل أن تفرج عنه عام 2010 مع قرار بإبعاده خارج الأراضي الفلسطينية، فانتقل إلى سوريا، ثمّ إلى قطر عقب اندلاع الثورة، ومنها إلى تركيا.
منذ عام 2015 دأبت إسرائيل على مطالبة تركيا بإبعاده عن أراضيها لأنّها تتّهمه بتمويل العمليات التي تُشنّ في الداخل الفلسطيني. مطلع هذه السنة نشرت صحيفة “هآرتس” العبرية أنّ تركيا فرضت قيوداً على تحرّكات العاروري. وعلى الرغم من نفي حماس قلّص عمليّاً من أنشطته في تركيا التي صار يزورها في فترات متباعدة. إلى ذلك يُعدّ العاروري أحد أبرز مهندسي المصالحة بين “حماس” والنظام السوري، والانتخابات الداخلية في الجماعة الإسلامية كانت جزءاً من آليات التمهيد لتحوّل ولائها إلى محور الممانعة.
* غداً في الحلقة الثانية: الجماعة الإسلامية: التحالف مع الحزب “كسّيب” أو “ربّيح”