تونس بين متاهتين

مدة القراءة 4 د


في تموز 2021 أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عن إجراءات استثنائية تمّ بموجبها تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، وبعد سنة من ذلك دُعي التونسيون إلى المشاركة في استفتاء على دستور جديد يكون بديلاً لدستور عام 2014. وقد يشعر مَن لا يعرف ما الذي جرى في تونس بغرابة تلك التحوّلات، فدولة تغيّر دستورها بعد ثماني سنوات لا بدّ أن تكون دولة هشّة ومهزوزة من الداخل وغير مستقرّة. وهو ما كانت تونس عليه وما تزال تدور في دائرته عاجزة عن الخروج من متاهة ربيعها الذي كبّدها الكثير من الخسائر من غير أن يهبها فرصة واحدة للتعبير عن حقيقتها، بلداً وشعباً. وفي الحالين لم تكن النتائج لصالح التونسيّين الذين لم يحافظوا على مستواهم المعيشي نظراً لانهماكهم في الفوضى واستجابتهم لدوافعها، تاركين مصادر عيشهم لما يمكن أن أسمّيه بخيال الأقدار بعدما استسلموا عشر سنوات لحركة سياسية متخلّفة اتّخذت من الدين وسيلة للسيطرة على الفقراء وما تزال تملك شيئاً من التأثير عليهم على الرغم من أنّ أحوالهم ساءت في ظلّ هيمنتها على السلطة.

الهدم هو مشروع الإسلام السياسيّ
كان سعيّد، وهو أستاذ في القانون السياسي ولم يمارس العمل السياسي من قريب ولا من بعيد، قد هيّأ نفسه للمواجهة حين تمّ انتخابه رئيساً للجمهورية بنسبة ليست متوقّعة. كانت البلاد يومها تمرّ بأزمة سياسية هي ثمرة لعشر سنوات من الفوضى، كانت حركة النهضة قد أنجزت فيها جزءاً من مشروعها في الهدم، سواء هدم كفاءة التونسيين في صيانة مصادر دخلهم من السياحة والفلاحة، أو هدم قدرة الدولة التونسية على حماية وتحصين وجودها المعنوي والمادّي. لقد انكشفت الدولة التونسية وبانت مفاصلها الداخلية بحيث صار العبث بها ممكناً من قبل موظّفيها انسجاماً مع درجاتهم الوظيفية، بحيث صار وزير الداخلية قادراً على الإشراف على المجاميع التي يتمّ ترحيلها من تونس إلى مواقع القتال الملتهبة من غير العودة إلى الدولة. فكلّ فرد من حركة النهضة كان بمنزلة دولة. وهو ما جرّد التونسيين من دولتهم ودفع بهم إلى خواء ليس بعده إلا الموت. ولا أبالغ إذا ما قلت إنّ تونس كانت على وشك الموت أو الحرب الأهلية حين خطف قيس سعيّد السلطة بضربة حظّ استثنائية. لذلك لا تُحسب اللحظة التي اُنتخب فيها سعيّد رئيساً جزءاً من ربيع تونس العربي. سمّاها الإخوان بشعور عميق بالأسى لحظة الثورة المضادّة.

بعد سنتين من إجراءات الرئيس التونسي نرى أنّ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، قد ذهب إلى السجن، وقد تطول إقامته هناك

البقاء في السلطة.. ولكن إلى متى؟
بعد سنتين من إجراءات الرئيس التونسي نرى أنّ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، قد ذهب إلى السجن، وقد تطول إقامته هناك. فالرئيس الذي يتفاوض مع أوروبا من جهة، ومع صندوق النقد الدولي من جهة أخرى، من أجل إنقاذ بلاده من الإفلاس، يدرك جيّداً أنّ بقاءه في السلطة ضروري لإنعاش آمال الطرفين. تونس مستقرّةً هي ضرورة بالنسبة لدول الجنوب الأوروبي، وبالأخصّ إيطاليا وفرنسا، والرئيس سعيّد لم ينقلب على الدستور إلا في الحدود المسموح بها. لذلك لم تنفع معه شعارات الدفاع عن حرّية التعبير. تعامل الرجل مع وظيفته بمسؤولية تاريخية فرضت عليه القيام بإنقاذ شعبه الذي ما يزال جزء منه يميل إلى حركة النهضة بسبب خضوعه لمغناطيسية التأثير التي يمارسها الدين. ولكنّه مصرّ على أن لا يضيع في دروب المتاهة التونسية على الرغم من أنّ الاتحاد التونسي للشغل ما يزال متردّداً بين أن يحمي المصالح المؤقّتة لنقاباته وبين العمل على الخروج بتونس من متاهتها.

إقرأ أيضاً: خطيئة في حقّ تونس!

لكنّ الكثيرين يعيبون على الرئيس التونسي بطئه. هل يحتاج قيس سعيّد إلى عشر سنوات أخرى لينجز التغيير الذي وعد به؟ أثبت سعيّد من خلال إجراءاته المتلاحقة أنّه لا يتصرّف بطريقة سياسية محضة. وليست لديه رغبة في الانتقام من حركة النهضة. كلّ ما فعله أنّه استعان بالقضاء المحايد والمستقلّ لمراجعة وقائع سنوات حكم النهضة، لا من أجل تجريمها بل من أجل التعرّف على أخطائها التي انتهت بتونس إلى الهاوية. أسئلة كثيرة حاول النهضويون أن يفلتوا منها صار عليهم أن يجيبوا عليها، وفي مقدَّمها “لِمَ ازداد الفقراء فقراً؟ ولماذا انهارت السياحة في بلاد كانت تعد بالكثير؟ ولماذا فقد الزيتون التونسي سوقه العالمية؟”.
ليس قيس سعيّد رجل سياسة، لكنّه رجل قانون. وقد علّمه منصبه السياسي أن يستعمل القانون خارج المحكمة.      

 

* كاتب عراقيّ

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…