الجماعة الإسلامية(2/2): الحوت يتمرّد على “الأيْرَنَة”

مدة القراءة 8 د


ثمّة بند في القانون الداخلي للجماعة الإسلامية يتيح لقيادتها إنشاء مكتب خارجي في أيّ دولة يتجاوز عدد المنظَّمين المقيمين فيها مئة. تطبيقاً لهذه القاعدة، أنشأ أمينها العامّ السابق عزّام الأيوبي مكتباً لها في تركيا، ولا سيّما مع موجة الهجرة اللبنانية، التي شملت الكثير من الطرابلسيين، إلى تركيا في السنوات الأخيرة. كان الأيوبي يرمي من خلال هذا المكتب إلى توطيد العلاقة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم.
بيد أنّ القيادة الجديدة التي هندس انتخابها نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس صالح العاروري، بالتنسيق مع فريق داخل التنظيم يؤمن أنّ التحالف مع الحزب هو الحلّ، باتت خياراتها تفرض عليها التقرّب من حزب السعادة التركي، الضلع الثالث في المثلّث الإخواني الممانع (حماس – الجماعة – السعادة).

الأسرار التركيّة
كان من المتوقّع أن يتمّ انتخاب مسؤول المكتب التركي في الجماعة في آذار الماضي، إلا أنّ العملية تأجّلت أكثر من مرّة، بسبب إصرار الفريق الجديد على المفاضلة بين اسمين أثار طرحهما امتعاضاً بين المنظَّمين في تركيا وأعضاء الجالية اللبنانية المنتسبين إلى جمعية “توليب” التي تعنى بشؤون اللبنانيين في تركيا، والمقرّبة من الجماعة. ذلك أنّ كلّاً منهما نشط في الدعوة إلى التصويت لحزب السعادة ولائتلاف المعارضة بشكل علنيّ. وهذا ما سينعكس سلباً على العلاقة التي نسجتها الجماعة عبر هذا المكتب مع حزب العدالة والتنمية، وبذلك تذهب جهود السنوات السابقة هباءً منثوراً. والجدير بالذكر أنّ الفريق المحسوب على الأمين العامّ السابق عزّام الأيّوبي، بينهم النائب عماد الحوت، أعرب بشكل علني عن تأييده لحزب العدالة والتنمية.

 بيان التهنئة من عزّام الأيوبي إلى الرئيس التركيّ


في الأصل يَعتبر هذا الفريق أنّه ليس على الجماعة المحافظة على العلاقة مع تركيا وقطر فقط، بل أيضاً الانفتاح على الدول العربية والخليجية، لأنّها تشكّل المدى الحيويّ للسُّنّة.
ثمّة سرّ تركيّ آخر. إذ يكشف مصدر مطّلع أنّ رئيس مكتب حركة حماس في الخارج خالد مشعل فتح تحقيقات في شبهات فساد، إثر عودته إلى القيادة بعد إبعاده لعدّة سنوات. لأنّه وجد صناديق “حماس” الخارجية خاوية، وهو ما تسبّب بإقفال قناة القدس التلفزيونية، على الرغم من أنّه ترك فيها أرصدة تكفل استمرارها لسنوات.
وكشفت التحقيقات، التي طاولت عدداً محدوداً من قيادات داخل “حماس” وآخرين في الجماعة الإسلامية لديهم ارتباط تنظيميّ بالأولى، أنّ لديهم استثمارات في مجال المطاعم والمقاهي في تركيا تُقدّر بنحو 11 مليون دولار، يديرها مسؤول قيادي في الجماعة مقيم في تركيا.
فكيف لأشخاص دخلهم بضعة آلاف من الدولارات شهرياً، الدخول في استثمارات كهذه؟
ينفي مصدر قيادي في حماس هذا الموضوع جملة وتفصيلاً، ويعتبره “جزءاً من الدعاية السوداء ضدّ الحركة، مثل محاولة تسويق فكرة انقسامها الى أجنحة متصارعة، واستغلال البعض لأبسط اختلاف في وجهات النظر من أجل ذلك”. ويشير المصدر نفسه الى أنّ قيادات حماس كانت في الحجّ (بدعوة خاصّة من الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز)، ومثلهم أيضاً أمين عام الجماعة الإسلاميّة وعدد من قياديّيها).

الحوت يتمرّد: لا لفرنجية “الإيراني”
في دردشة سابقة مع أحد المسؤولين الذين تولّوا إيصال القيادة الجديدة، نفى بشكل تامّ انصهار الجماعة ضمن محور الممانعة، وأجرى مقارنات بين العهدين السابق والحالي للتأكيد أنّ المسار هو نفسه، مستشهداً باللقاءات التي أجراها الأمين العامّ السابق عزام الأيوبي مع الأمين العامّ للحزب.
لكنّ الواقع يدحض ذلك. فقيادات الجماعة تثابر على الاجتماع بشخصيّات من سرايا المقاومة سرّاً وعلناً، وتشارك بتمثيل رفيع المستوى في كلّ الأنشطة التي تنظّمها حركات وجمعيات تنتمي إلى محور الممانعة، مثل المؤتمر الذي أقامه أحد الأفرع الثلاثة لحركة التوحيد الإسلامية منذ أيام قليلة في فندق الكومودور في الذكرى السنوية لوفاة مؤسّسها الشيخ سعيد شعبان، والذي شهد مشاركة الأمين العام للجماعة محمد طقّوش وإلقاءه كلمة في المناسبة. وهذا الفرع يعدّ الأكثر تماهياً مع الحزب.
أبعد من ذلك، تشير المعلومات إلى أنّ القيادي في “حماس” صالح العاروري وعد نائب حركة أمل محمد الخواجة بتصويت نائب الجماعة عماد الحوت لرئيس تيار المردة سليمان فرنجية في الجلسة الأخيرة. لكنّ الحوت خرج إلى الإعلام وأعلن التزامه قرار “اللقاء النيابي المستقلّ”، فأحرج العاروري الذي واظب على الاتصال بالأمين العامّ للجماعة محمد طقّوش للضغط على الحوت، إنّما دون فائدة.

يشير مصدر قيادي في الجماعة إلى أنّه “وفق النظام الأساسي، هناك محكمة دائمة مهمّتها متابعة القضايا التي تطال التنظيم ومعالجتها

الفريق الذي دعم انتخاب القيادة الجديدة للجماعة يعمل منذ انتهاء الانتخابات الداخلية على تثبيت حضوره من خلال الإمساك بكلّ المؤسّسات الاجتماعية والتربوية والجمعيات، وإقصاء ما يُعرف بالجناح التركي – القطري. ويُعدّ الأمين العامّ السابق عزّام الأيوبي أحد أبرز من تعرّضوا للتهميش. فعلى الرغم من النتيجة اللافتة التي حقّقها في الانتخابات النيابية، إذ كان قريباً جدّاً من الظفر بمقعد نيابي ثمين في معقل السُّنّة الأبرز في طرابلس، لم يحُل ذلك دون حرمانه من رئاسة مجلس الشورى. لكنّ فرع التنظيم الدولي للإخوان في لندن تدخّل لإيجاد نوع من التوازن عبر تعيين الأيوبي في منصب مهمّ في الهيكليّة الإدارية للجماعة، بما يحول دون إقصائه عن قرار الجماعة.

والحال نفسه بالنسبة للنائب عماد الحوت وبعض القياديين السابقين، إذ تشير المعلومات إلى تشكيل لجنة داخلية برئاسة المحامي باسم الحوت (ابن عمّ النائب عماد الحوت) للتحقيق في كيفية تسرّب المعلومات من داخل أروقة الجماعة إلى الصحافة، واستخدام هذه التسريبات سلاحاً لطرد غير المرغوب فيهم عبر اتّهامهم بأنّهم من فعلوا ذلك. وبينهم مسؤول سابق في الشمال كان قاب قوسين أو أدنى من الفصل، ورُفع ملفّه إلى الأمين العامّ محمد طقوش الذي رفض المضيّ بالقرار، واشترط الإتيان بإثباتات دامغة.
لذلك تواصل بعض الأشخاص من الجماعة مع عدد من الزملاء للحصول على تسجيلات منهم بأسماء مصادر معلوماتهم، فلم يتجاوب أحد. وتفيد أجواء النائب عماد الحوت بأنّ كلّ الضغوطات لن تجعله يقبل التماهي مع طروحات الممانعة، وأنّه على دراية بما يُحاك له. وفي حال إخراجه من التنظيم فسيتابع مسيرته السياسية، معتمداً في ذلك على نشاطه البرلماني، والرصيد الذي راكمه على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وتواصله الدائم مع أغلب الجمعيات في بيروت، ومع النواب السُّنّة في مختلف المناطق، وانفتاحه على نواب الكتائب والقوّات.
هنا يشير مصدر قيادي في الجماعة إلى أنّه “وفق النظام الأساسي، هناك محكمة دائمة مهمّتها متابعة القضايا التي تطال التنظيم ومعالجتها. وهي تعمل على متابعة قضيّة التسريبات، وإذا كانت متعمّدة أو لا، وهذا اختصاصها. وفي النهاية تتّخذ إجراءات حسب اللوائح التنظيمية”.

الفرصة الذهبيّة
تعتبر القيادة الجديدة وداعموها أنّ الحزب هو اللاعب الأقوى محليّاً بما لا يقاس مع باقي القوى السياسية الأخرى، وأنّ التحالف معه سيعود بالكثير من الإيجابيات على التنظيم الذي يعاني جموداً تنظيمياً وفكريّاً. وتعزو المصادر نفسها سبب الإعراض عن تظهير التحوُّل الاستراتيجي إلى أنّ الرأي العامّ السنّيّ، وبخاصة في طرابلس، ما يزال غير متقبّل لفكرة تقارب أيّ شخصية أو تنظيم سنّيّ مع الحزب، ولا الانفتاح على النظام السوري، على الرغم من كلّ التغيّرات التي طرأت على المشهدين العربي والإقليمي. وهذا ما دفع القيادة الجديدة إلى التروّي أكثر.
حسب المعلومات المتسرّبة من الداخل، فإنّ الحزب هو من اشترط المصالحة مع نظام بشار الأسد، وإقصاء الفريق المعارض، كشرط للتحالف معه، مقابل وعد منه بالتحالف والدعم في الانتخابات النيابية والبلدية.
وهناك كلام عن دعم سيقدّمه الحزب في بعض التعيينات الإدارية عندما يحين وقتها، وهو أمر يحصل للمرّة الأولى. إذ لم يسبق أن تولّى أيّ شخص منتمٍ للجماعة منصباً رفيعاً ضمن هيكليّة الدولة. وثمّة قناعة لدى بعض الأطر القيادية للجماعة بأنّ الواقع السنّيّ الحالي يشكّل فرصة ذهبية لرفع شعبيّتها، ولا سيّما أنّها التنظيم السنّيّ الوحيد، بعد انسحاب تيار المستقبل، الذي لديه حضور ثابت وقديم في كلّ المناطق ذات الكثافة السنّيّة. وقد لا تكون هذه الفرصة متاحة في المستقبل.

إقرأ أيضاً: المثلّث الإخوانيّ الممانع: السعادة التركي وحماس والجماعة(1)

في هذا السياق يجد الحزب مصلحةً في دعم الجماعة من أجل إيجاد نوع من التوازن بينها وبين خصمها التاريخي جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، التي صار لديها اليوم نائبان، وربّما يصيرون أكثر في الانتخابات المقبلة. ويبرع الحزب في مثل هذا النوع من السياسات، لا سيّما أنّه يسعى إلى ابتلاع التمثيل السنّيّ عبر مختلف الأدوات المتاحة، مستغلّاً في ذلك الشغور السياسي الفاضح عند السُّنّة وعجزهم عن إنتاج قيادات جديدة.
من الملاحظ في هذا الإطار أنّ الحزب يولي طرابلس اهتماماً كبيراً في الآونة الأخيرة أكثر من نوابها وزعمائها الحاليين، ويفتح خطوطاً وجسوراً للتواصل مع مختلف الشرائح الاجتماعية والنخبوية فيها. وهذا ما يمكن أن يتيح له في المستقبل أن تكون له الكلمة الفصل في تمثيلهم النيابي.
لكنّ هذا التوجّه “الإيراني” يواجه معارضة. القاعدة الشعبية “غير جاهزة” و”غير راضية”، والنائب الوحيد، عماد الحوت، “متمرّد، وهذه “بشرة خير”.

مواضيع ذات صلة

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…