ما يشهده لبنان حالياً من تطوّرات هو جزء لا يتجزّأ من حرب قضم واستنزاف يتعرّض لها منذ دخول المجموعة الأولى من “الحرس الثوري” الإيراني ثكنة الشيخ عبدالله التابعة للجيش اللبناني في مثل هذه الأيام من عام 1982.
كانت الحجّة التي سيقت، وقتذاك، لتبرير الدخول الإيراني إلى لبنان بإذن من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، أنّ “الحرس الثوري” يريد المشاركة في مواجهة الجيش الإسرائيلي الذي شنّ حملة عسكرية استهدفت إخراج المسلّحين الفلسطينيين من لبنان.
خرج المسلّحون الفلسطينيون من لبنان ولم يخرج “الحرس الثوري”. خرج الجيش السوري من لبنان ولم يخرج “الحرس الثوري” الذي طوّر وجوده على الأرض اللبنانية وصار حاضراً، أكثر من أيّ وقت، عبر لواء لبنانيّ في “الحرس” اسمه الحزب.
ربّما أكثر ما يدلّ على مدى طغيان النفوذ الإيراني في لبنان هي الدعوة إلى حوار وطني من أجل انتخاب رئيس للجمهوريّة بدل أن يكون الانتخاب في مجلس النواب اللبناني. مطلوب أن يكون المجلس النيابي مجرّد أداة طيّعة في يد “الحرس الثوري” لا أكثر، على غرار ما هو عليه البلد كلّه.
حوار لكسب الوقت
ليست الدعوة إلى حوار وطني سوى محاولة أخرى لكسب الوقت. تعرف “الجمهوريّة الإسلاميّة” أنّ الوقت لا يعمل لمصلحة لبنان. على العكس من ذلك، يعمل الوقت لمصلحتها. مع مرور الوقت، خرج الفلسطيني ثمّ خرج السوري، بعد مشاركته في جريمة اغتيال رفيق الحريري وتغطيتها. في المقابل، بقي الإيراني الذي استطاع في عام 2016 إيصال مرشّحه ميشال عون إلى موقع رئيس الجمهوريّة. كرّست “الجمهوريّة الإسلاميّة” سابقة في غاية الخطورة تتمثّل في أنّ مرشّح الحزب، أي مرشّح “الحرس الثوري”، أيّاً يكن هذا المرشّح، يصبح رئيساً للجمهوريّة اللبنانية.
يبقى على الصعيد اللبناني أنّ إيران التي تتحكّم بالبلد تريد الوقت وليس الحوار، وقت اللبنانيين من أجل إفراغ البلد أكثر من شبابه ومن مسيحيّيه ومزيد من القضاء على مقوّمات وجوده في انتظار صفقة مع أميركا
خلاصة الأمر أنّ الوقت يعمل لغير مصلحة لبنان الذي لم يعد أكثر من ورقة إيرانيّة في لعبة كبيرة تستهدف “الجمهوريّة الإسلاميّة” من خلالها الحصول على اعتراف أميركي بأنّها القوّة المهيمنة على المنطقة. ثمّة واقع لم يعُد في الإمكان الهرب منه من العراق، إلى سوريا، إلى لبنان. ليست مظاهر الحياة في بيروت هذا الصيف غير مَكرُمة من الحزب الذي يسمح حتّى بنوع من الحياة الليلية في مدينة جنوبيّة مثل صور على العكس ممّا يحدث في مدينة ذات أكثريّة سنّيّة مثل صيدا!
شيئاً فشيئاً تستكمل إيران عبر الحزب وضع اليد على لبنان. إذا انتُخب مرشّحها سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة، كان ذلك في مصلحتها. إذا لم يحصل ذلك فلا مانع. الفراغ أفضل من سليمان فرنجيّة لأنّه يفرّغ لبنان من قواه الحيّة، غالبيتهم من المسيحيين الذين يبحث شبابهم عن أيّ طريقة للخروج من البلد وإيجاد فرصة عمل خارجه.
كان النائب سامي الجميّل، رئيس حزب الكتائب”، دقيقاً في تحذيره من خطورة عامل الوقت الذي يُستخدم في تغيير هويّة لبنان. نعم، إنّ لبنان الذي عرفناه لم يعد قائماً، خصوصاً في ضوء انهيار النظام المصرفي فيه. كان انهيار النظام المصرفي تتمّة لتدمير بيروت وإفقارها حيّاً حيّاً وشارعاً شارعاً انتقاماً من فكرة إعادة الحياة إليها انطلاقاً من وسطها.
لا شيء يحدث بالصدفة
لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان الذي يشبه الحوار فيه ذلك الحوار الذي كان يسعى إليه الثائر المكسيكي بانشو فييّا في مطلع القرن العشرين. كان بانشو فييّا يقول: “أنا لا أفرض شيئاً على أحد. أنا أضع مسدّسي على الطاولة وأقدّم اقتراحي”. كلّ ما هو مطلوب حاليّاً هو حوار وطني لبناني بديل من انتخاب رئيس للجمهورية في مجلس النواب. مطلوب حوار لبناني مع حزب مسلّح يعترف بولائه المطلق لإيران ويمتلك قرار السلم والحرب ويقرّر متى يرسِّم لبنان حدوده البحريّة، وربّما البرّيّة، مع إسرائيل. إنّه حوار للحزب مع لبنانيين آخرين لا حول لهم ولا قوّة ولا خيار أمامهم غير الاستسلام.
الأكيد أنّ المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان العائد إلى بيروت قريباً لن يستطيع تحقيق أيّ تقدّم، لا لشيء إلّا لأنّ إيران غير مهتمّة بما تريده فرنسا ولا تقيم لها وزناً. كلّ ما يستطيعه لودريان الذي يعرف الوضع اللبناني عن ظهر قلب، السعي إلى استرضاء الحزب على حساب اللبنانيين الآخرين من مسيحيّين وسُنّة ودروز على حساب التوازنات الدقيقة الواردة في دستور الطائف… فيما الهمّ الإيراني في مكان آخر. الهمّ الإيراني في واشنطن وليس في باريس. ليس لبنان وطرح الحوار بين اللبنانيين سوى ورقة من الأوراق التي تستخدمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” بهدف واحد وحيد هو الوصول إلى صفقة مع “الشيطان الأكبر”.
يبدو التوصّل إلى مثل هذه الصفقة في غاية الصعوبة، في المدى المنظور، على الرغم من كلّ الجهود التي تبذلها سلطنة عُمان وأطراف أخرى. ثمّة صعوبات داخلية أميركيّة تحول دون مثل هذه الصفقة التي كان روب مالي مسؤول الملفّ الإيراني في الإدارة الأميركية من أشدّ المتحمّسين لها. لم يفقد مالي كلّ نفوذه بعد، على الرغم من سحب ترخيصه الأمنيّ وإجباره على أخذ إجازة واحتمال خضوعه لتحقيق على يد مكتب التحقيق الفدرالي (إف. بي. آي). لكنّ الواضح أنّ تمرير صفقة مع إيران لم يعد في الأولويّات الأميركيّة.
إقرأ أيضاً: معجزة لبنانيّة في زمن اللامعجزات
يبقى على الصعيد اللبناني أنّ إيران التي تتحكّم بالبلد تريد الوقت وليس الحوار، وقت اللبنانيين من أجل إفراغ البلد أكثر من شبابه ومن مسيحيّيه ومزيد من القضاء على مقوّمات وجوده في انتظار صفقة مع أميركا… صفقة قد تتمّ يوماً وقد لا تتمّ، لكنّها في كلّ الأحوال على حساب بلد فقد معظم المنتمين إلى الطبقة السياسية فيه أيّ قدرة على الارتقاء إلى مستوى الأحداث الدائرة في المنطقة والعالم!
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@