تتأرجح أزمة الاستحقاق الرئاسي اللبناني بين نقطتين اثنتين هما:
1- الاجتماع الخماسي في قطر.
2- الزيارة الثانية للمبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص ووزير الخارجية الأسبق جان إيف لودريان لبيروت.
اللعب في الوقت الضائع
نجحت قطر دبلوماسياً في تحويل دعوتها التشاورية الموجّهة إلى الدول الأعضاء في اللقاء الخماسي إلى اجتماع حقيقي لدول خليّة الأزمة اللبنانية في الدوحة. وأكّدت مصادر فرنسية إمكانية انعقاده يوم الإثنين في 17 تموز 2023. وستلبّي الدول المعنيّة طلب الدوحة. وسوف يحضر لودريان ممثّلاً فرنسا.
يعتبر هذا الاجتماع التشاوري مهمّاً ومفصليّاً بخصوص الأزمة والشغور الرئاسي اللبناني. حتى مع دخول لبنان مرحلة الزمن الميت أو الضائع والوقت المستقطع، لكنّه الوقت المقبول بحسب الظروف الطبيعية الذي لن يمرّ إلا بهذه الطريقة. كأنّ هذه الفترة هي فترة الحركيّات الجامدة في المفعول والعديمة البركة. إلّا أنّها تُعتبر ضرورية من أجل إحداث الفارق لصالح الحلّ.
ستتمّ مناقشة الملف اللبناني من زوايا مختلفة ومتعدّدة تنطلق من الواقعية السياسية الآنيّة في لبنان وتتماشى مع إشكاليات الاستقطابات الجامدة وظروفها الواقعية. توجد احتمالية طرح الخيار الرئاسي الثالث، مدنياً كان أو عسكرياً، بغضّ النظر عن المواقف التفضيلية لكلّ دولة. ويتركّز العمل على إنجاح تسوية من شأنها إنهاء الشغور الرئاسي من بوّابة احترام الدستور وتحصين الصيغة والرسالة.
يعتبر هذا الاجتماع التشاوري مهمّاً ومفصليّاً بخصوص الأزمة والشغور الرئاسي اللبناني. حتى مع دخول لبنان مرحلة الزمن الميت أو الضائع والوقت المستقطع
– هل سيقدّم هذا الاجتماع الخيار الثالث كحلّ جدّي في لبنان؟
– هل تنجح قطر في إقناع المجموعة بخيار قائد الجيش جوزف عون؟
– هل يشكّل هذا اللقاء الرافعة الدولية الداعمة للمبادرة الفرنسية وزيارة الوزير لودريان؟
لم تُحسم سريعاً فكرة انعقاد الاجتماع. لم تأتِ الأجوبة الإيجابية مباشرة، وتأخّرت حتى الساعات الأخيرة. خيّمت الضبابية عند بعض الدول، والتريّث عند البعض الآخر، والاستمهال عند البقيّة. لم تتحمّس فرنسا في البداية. لم ترفض انعقاد اللقاء بالمطلق، إنّما رغبت بمساحة حراكيّة ذاتية، إفساحاً في المجال أمام مبادرتها الجديدة. وقد أفلحت قطر في إقناع الجانب الفرنسي بأنّ هذا الاجتماع سيعطي زخماً ودعماً عربياً ودولياً لمبادرتها، وهو ما تحتاج إليه فرنسا المنكسرة.
بقيت المملكة العربية السعودية على حيادها وقرارها الثابت والرصين. لم تدخل في الأسماء. هي مع دعم أيّ حلّ استقراري توافقي غير استقطابي واستفزازي في لبنان يضمن بالدرجة الأولى السيادة والاستقلال، ويتوافق عليه اللبنانيون، ويحترم الدستور ووحدة الدولة اللبنانية، ويكرّس الطائف قولاً وفعلاً وممارسة.
تضمن المملكة العربية السعودية هذه المسلّمات، خصوصاً أنّ حدود المبادرة القطرية في لبنان ودورها كوسيط اقتصادي وعلاقاتها وتمايزها السياسي لا تخرج ولا تتخطّى الروحية السعودية ولا الإجماع الخليجي، الذي رسمته السعودية، وسقفه البيان الثلاثي ومسوّدة الإصلاحات وتطبيق القرارات الدولية.
في ذات السياق، لا يوجد تصوّر مباشر للولايات المتحدة الأميركية في المسألة اللبنانية، فموقفها تقاطعيّ مع كلّ من السعودية وفرنسا وقطر. تتوافق أميركا مع المملكة السعودية حول البعد الاستراتيجي للحلّ النهائي، وهو الطائف والبيان الثلاثي، وهي راضية عن الحلّ اللبناني وفق الرؤية السعودية. تتناغم مع فرنسا بمنحها وتفويضها وتسليمها مساحة جيّدة من الحراك الدولي على الساحة اللبنانية، ضمن حدود التفاهم السعودي الأميركي. تتمتّع الولايات المتحدة الأميركية بعلاقات مميّزة مع الدولة القطرية، وتؤمن بدورها الوسيط سياسياً واقتصادياً، وتقدّر رشاقة حركتها وتواصلها مع كلّ الأفرقاء حتى مع إيران وإمكانية الاستفادة منها للوصول الناجح إلى النهايات الإيجابية والتقاربية. فيما تقوم مصر بالدور المساعد والمؤازر والداعم لأيّ فكرة استقرارية في لبنان، عنوانها تطبيق الدستور والمحافظة الكيانية، وأن يكون لبنان جزءاً من الإجماع العربي.
زيارة لودريان الثانية تطبيقية؟
ينتظر لبنان بأكمله زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي الخاص جان إيف لودريان الثانية لبيروت، التي ستلي الاجتماع الخماسي في العاصمة القطرية الدوحة، وزيارته الرياض. تأتي زيارة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق استكمالاً لمهمّته الرئاسية وزيارته الأولى. وهي تُعتبر تطبيقية غير استطلاعية أبداً. سيحاول إيجاد الخرق العملي قدر الإمكان. فما من شيء رسمي حول شكلها ومضمونها ونطاقها، إلّا أنّ حدودها وهدفها إنهاء الشغور الرئاسي فقط. سيستعمل كلّ الوسائل المتاحة التي تساعد على ملء هذا الشغور واستكمال كلّ الاستحقاقات من بوّابة الثوابت اللبنانية الوطنية وركائز صيغة دولة لبنان الكبير الموحّدة ووثيقة الطائف الدستورية.
أفلحت قطر في إقناع الجانب الفرنسي بأنّ هذا الاجتماع سيعطي زخماً ودعماً عربياً ودولياً لمبادرتها، وهو ما تحتاج إليه فرنسا المنكسرة
للمرّة الأولى تظهر تباينات متعدّدة شرسة داخل فرنسا بهذه الحدّة في مراكز قرار الحكم فيها، خصوصاً بين مؤسسة الإليزيه الرئاسية وتصوّراتها في السياسة الخارجية، وبين لجنة السياسة النيابية الخارجية البرلمانية في الجمعية الوطنية، وبين دبلوماسية “الكي دورسيه” (وزارة الخارجية الفرنسية) وفريقها العامل على الملفّ اللبناني بحيث بلغ تمايزها النمطي حدّ الاختلاف مع رؤية وطريقة لودريان في التعامل مع الملفّ اللبناني.
تسبّب هذا الأمر في إضعاف الموقع والموقف الفرنسيَّين في الحلّ والتأثير دولياً وأوروبياً. برزت أيضاً فروقات جمّة واختلافات تكتيكية عديدة بين فرنسا ودول أعضاء اللقاء (السعودية، أميركا، قطر) حول طريقة التوصّل إلى النتيجة النهائية في لبنان، مع التوافق التامّ على ضرورة تقديم الدعم والمساعدة للبنان. وهذا ما أضاع الفرص وأبطأ الحلّ وأثقل زمن الحلّ وشتّت الأفكار.
تتعامل فرنسا الآن مع الملفّ اللبناني بطريقة مختلفة وأقرب إلى الواقعية. يحاول لودريان الاستفادة من الأخطاء السابقة، ويجهد في استثمار كلّ الظروف والمسبّبات لمصلحة إنجاح مهمّته، فلا شيء محدّداً ومشروطاً أبداً في سبيل حلّ المعضلة الرئاسية التي هي الأولوية والمدخل الأساسي لكلّ الاستحقاقات المنتظرة. وقد برز فريقان أخيراً:
1- الفريق الأوّل يؤيّد الحوار قبل انتخاب الرئيس، وهو الأمر الذي يعني الحوار الشامل في لبنان بين الأفرقاء اللبنانيين الذي يضمّ إمكانية تعديل النظام وتطويره، والاتفاق على سلّة متكاملة مؤلّفة من انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة وشكلها وسياساتها. فما إمكانية تخطّيها للوصول إلى تغيير النظام؟
2- الفريق الثاني يريد إجراء حوار بعد انتخاب الرئيس، الذي يفترض أن يدير هذا الحوار بصفته حكَماً.
تنطلق مهمّة المبعوث الفرنسي لودريان من مسلّمة الحفاظ على الدولة اللبنانية والعيش الواحد المشترك، وعلى صيغة 1920، وتحصين جمهورية الطائف والمناصفة، وتطبيق الطائف المجرّد بكلّ بنوده. تؤيّد فرنسا حالياً تكثيف الجهود لإنهاء الشغور الرئاسي، وهذا ما تتوافق بصدده بشكل تامّ مع المملكة العربية السعودية. ويصحّ من بعد انتخاب الرئيس الجديد البدء بحوار شامل برئاسته من دون المسّ بالصيغة الوطنية، فهو الرئيس الجامع ورمز الدولة ووحدتها والمؤتمَن على الدستور.
الرياض – باريس: لا خير في الحوار
تعتبر كلّ من المملكة السعودية وفرنسا أنّ الشروع في حوار في مرحلة الشغور الرئاسي والشلل المؤسّساتي ليس بأمر جيّد، إذ يتوجّسان من أن يؤدّي بفعل عدم التوازن بين الأفرقاء وحالات اللامساوة، ووجود حالة الغلوّ وفائض القوّة والسلاح لدى “الحزب”، إلى اتّباع مشروطيّة الغلبة، والدخول في الأفكار والصيغ الباطنية كالمثالثة والفدرالية، تمهيداً لدخول لبنان عصر التجزئة وما بعدها بفعل الأمر الواقع. وهو ما تتصدّى له كلّ من السعودية وفرنسا والفاتيكان وباقي دول اللقاء الخماسي والمجتمع الدولي الصديق. فلا عودة إلى الصيغ والنماذج القديمة السابقة لما قبل دولة لبنان الكبير، ولا إمكانية للسماح بالقفز المستقبلي فوق اتفاق الطائف. فلن تخرج مهمّة الوزير لودريان، ولا حتى التحاور والتشاور، عن موضوع الاستحقاق الرئاسي، وليس هنالك تصوّر لأيّ حوار مفتوح أبداً.
إقرأ أيضاً: اجتماع خماسي بالدوحة: آليات لمسار جديد
يسعى الوزير جان إيف لودريان إلى استمالة وكسب الدعم الدولي الكلّي من دول اللقاء الخماسي. يمنّي نفسه أن يقنعها بالأفكار الفرنسية الجديدة، والمعدّلة بأسلوبه لإنجاح مهمّته. سيجتهد في تحفيز الساحة المحلّية بهدف الوصول إلى النهاية الإيجابية وانتخاب رئيس الجمهورية، من خلال التسخين والتشجيع على التلاقي والتشاور والتقارب غير المحدّد بأيّ سيناريو لانتخاب رئيس للدولة، فالأمور كلّها مفتوحة ومنفتحة على أيّ نقاش، والأولوية هي لخلق مناخات تساعد على تطبيق الدستور وإنهاء الشغور الرئاسي.
ما تزال الساحة المحلّية اللبنانية جامدة، وتنتظر بترقّب ما سيرشح من كلّ هذه الأحداث، فلا شيء مؤكّد ولا حتى رسمي، سواء انعقدت القمّة الخماسية أو عاد وزير الخارجية الأسبق الفرنسي لودريان، إلا أنّ هناك إرادة دولية لمساعدة لبنان، وفشلاً وتراخياً وانفصاماً لبنانياً داخلياً. فهل تشكّل القمّة الخماسية في الدوحة دافعاً إيجابياً جديداً محرّكاً للحلّ اللبناني؟ وهل تنجح المهمّة الفرنسية اللودريانية في لبنان؟