كونديرا الرومنطقي العدمي حوّل الرواية إلى تاريخ وفلسفة

مدة القراءة 10 د

لم يكن ينقص براغ برودةً ورتابة، إلا إعلان وفاة الكاتب التشيكي ميلان كونديرا عن عمر ناهز 94 عاماً. أعلنت الناطقة باسم “مكتبة ميلان كونديرا” اليوم الاربعاء في مدينة برنو التشيكية، حيث وُلد مؤلّف “وجود لا تُحتمل خفّته”. وقالت آنّا مرازوفا “للأسف، أستطيع أن أؤكّد لكم أنّ ميلان كونديرا توفّي أمس (الثلاثاء) بعد معاناة طويلة من المرض”.
أسلوب كونديرا السردي حوّل الرواية إلى تأريخ وفلسفة. في جزء منها يكتب عن عوالم يراها مرتكزاً على وعيه الخاص وإن نسبه البعض لحقبة ماركسية وليست شيوعية. أبعد من ذلك فقد ذهب في روايته حد الفلسفة الواضحة إذ تنتهي القصة بأسئلة لا أجوبة، على غرار ما يفعل الفلاسفة في حيواتهم.
رواياته تمتد لحيوات أبطالها الذين تصنعهم صُدف وحوادث غريبة. يقول كونديرا حول هذا في حوار مع الكاتب فيليب روث: “لقد كان، ولم يزل، طموح حياتي أن أوحد جدية السؤال القصوى بخفة القالب القصوى. وليس ذلك مجرد طموح فني، فالمزج بين القالب التافه والموضوع الجاد يكشف فورًا القناع عن أحلامنا وتفاهتها الرهيبة. نحن نعيش خفة الوجود التي لا تحتمل” ، وهذه الجملة كانت عنوان روايته الأشهر للجيل الحديث وجاءت تحت عنوان “خفة الكائن التي لا تحتمل”، لكن غلبة من النقاد ترى في رواتية “الخلود” الجزء الأوسع من الروائي التشيكي.

خصم الأيديولوجيا والقومية
أشد أنواع النقد التي طالت كونديرا كانت من الكاتب الثقافي حسونة المصباحي الذي اعتنبر في ذروة صعود ميلان كونديرا أن الأخير لم يكن يقدم جديداً مثيراً، حتى عندما كان يصدر روايات في منفاه الفرنسي. تجربته الإبداعية ارتبطت بفضح الشيوعية، وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم يعد “يملك ما يثير الاهتمام، وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير الفرنسية لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية”.
غير أن كونديرا رغم ذلك نبغ في سنواته الأخيرة في فرنسا كناقد من خلال مؤلفاته “فن الرواية”، و”الوصايا المغدورة”، و”الستارة”. تلك الكتب التي خصصها للرواية الأوروبية من رابليه وسارفنتس إلى فرانز كافكا وهرمان بروخ، وقد أظهرت موسوعيته الثقافية  بالرواية والموسيقى والفلسفة والتاريخ.

يكاد يكون كونديرا الاستثناء الأبرز على غيره من الروائيين لجهة “تخليق” مذهب سار به طويلاً . وحده على معاني من المعاني ساءل في روايته الفن بكل أنواعه وبحث في علاقاته بالعالم

الرواية عدوة الأيديولوجيا؟
السؤال المُلح الذي يأتي في هذا السياق كان من الروائي كمال الرياحي: ما معنى أن تكون الرواية عدوة الأيديولوجيا؟ أو كما قال كونديرا في كتابه “فن الرواية” لا تُكتب لتصفية الحسابات وإن كُتبت كذلك، فستخفق إخفاقا فنيا تاما، وفي الوقت نفسه لا تغادر روايات كونديرا مجال الأيديولوجيا وهو حقلها الأكثر وضوحا، وهل يمكن للروائي أن يكتب خارج الأيديولوجيا أصلا، وهل نجا منها الكاتب المصباحي نفسه في رواياته؟
الأهم في قراء كونديرا والسجال حول معنى ومبنى رواياته هو تفكيك عباراته وكلامه عن الأيديولوجيا أيضا عبر نظرية النسبية التي أشار إليها، وهو يتحدث عن نسبية الحقيقة الروائية. وبرأي الكاتب الرياحي لهذا يوضح كونديرا “إذا ما رفضت الرواية التقيد بالأيديولوجيا السياسية في عصرنا، والمساهمة في التبسيطات الأيديولوجية التي باتت مبتذلة وثقيلة، فإن هذا لا يعني موقفا حياديا من جانبها، وإنما هو تحد، إذ إن الرواية تُسقط نظام القيم المتعارف عليه، والأسس الجاهزة، وتقوض الأفكار السائدة”.

الأدب الروسي.. الانتفاضات والثقافة
في فصل بعنوان “الغرب مختطفا أو تراجيديا أوروبا الوسطى” يورد كونديرا موقفا غريبا من الأدب الروسي؛ إذ يقرنه بالسوداوية والجنون، وفي مقابل ولعه بالأديب الفرنسي دنيس ديدرو، يصرح بموقف مفاجئ من دستويفسكي، فيقول أنا لست كاتبا من الشرق، وبراغ هي قلب أوروبا.
ويضيف: بالنسبة لدستويفسكي أنا لا أنكر عظمته، وإنما أرغب فقط في التعبير عن نفوري الشخصي منه، وهذا النفور فاجأني أنا نفسي، وقد انتبهت إلى أن العالم الروسي الهيستيري، ونزوعه إلى الجنون، وإلى الرغبة في التألم، وإلى النزول إلى ظلمات الأعماق غريب عني؛ لذلك أحسست أني أمرض عندما أقرأ مثل هذا الأدب، وقد بحثت عن دواء، ولم أجد هذا الدواء إلا عند ديدرو.

تعديل جذري من براغ إلى باريس
تنطوي روايات كونديرا على حساسية حادة، مريرة وتهكمية، حيال مصائر التاريخ والثقافة الأوروبيين الحديثين في القرن العشرين. الحساسية هذه غالباً ما تجتهد في استنباط اشكال وشخصيات، ليس مفهوماً إن كانت صنيعة التجارب والوقائع والخبرات الحية ومفارقاتها الوجودية، أم انها استعارات وأقنعة ومجازات كبرى لأفكار شديدة التركيب؟.
يظهر هذا جلياً ومحيّراً في أعماله الروائية كلها، منذ “المزحة” و”كتاب الضحك والنسيان” و”الحياة في مكان آخر”، وصولاً الى “خفة الكائن التي لا تُحتمل”.  بعد هذه الروايات، وهي نتاج حقبة عيشه في براغ حتى العام 1975، بدأ مرحلة ثانية فرنسية العيش وحتى التفكير، إذ تبدى ذلك في روايته “خلود”. عبرها انتهج سلوكاً آخر في الكتابة  جعل فيها البناء الذهني والفكري الخالص والمتقشف متقدماً على البناء الروائي الذي راح يتبدد. وهذا أكثر ما تبين في روايتيه “خيانة الوصايا” و”لقاء” اللتين جاءتا خلواً من الفائض في البناء الروائي..

فرادة كونديرا
يكاد يكون كونديرا الاستثناء الأبرز على غيره من الروائيين لجهة “تخليق” مذهب سار به طويلاً . وحده على معاني من المعاني ساءل في روايته الفن بكل أنواعه وبحث في علاقاته بالعالم، بالضحك، بالنسيان، بالذاكرة، وبالموت. لم يساءل فقط بل أقم في تأملات غيره التي يرد هذه الإقامة إلى الباعث على نقد كونديرا للآخرين.
من مفرادته أيضاً هو أنه أعمل الذهن مع نصوص فلسفية وروائية وتذوقه الفني في سياقات رواياته. عبرها تأمل سلوك الشخصيات وأبطال روايته ودوافعهم ومواقفهم. المفارقة الوحيدة كانت في كتابه “لقاء” إذ حافظ على البناء المحكم والدقيق للعمارة الروائية ومنطقها الفني ، في نص كان من طبيعة وجودية عيشاً ونهايةً.

التحق بالحزب الشيوعي في العام 1948، وتعرض للفصل هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970

ذهب كونديرا حتى النهاية في نقد الواقع والفكر والممارسة التوتاليتارية، أكانت نازية أم شيوعية أو فاشية، وما انبثق عن هذا الثالوث الايديولوجي من تيارات سياسية ونزعات ثقافية، اعتبرها وعن حق أنها هي من أنزلت الكوارث في أوروبا التي أحبها حباً لم يعلن عنه بوضوح كما في روايته وحديثه عن حضارتها وثقافتها. وإن كان من يهودييها فقد بقي على الدوام منتسباً إليها بالجغرافيا والثقافة والتاريخ.

المرأة والغواية والموت والوجود عند كونديرا
كونديرا نفسه يقول إن الروايات قد تولد هكذا فجأة من طيف فكرة عابرة أو حركة عابرة في معرض تقديمه لروايته “الخلود”. هذا ما قاله في مطلع روايته الباريسية الأولى باللغة الفرنسية، وهي ليست لغته الام ” تلك الرواية (وهي الخلود) ولدت من تلويحة يد امرأة”
في مستهل روايته “حفلة التفاهة”، التي نقلها من الفرنسية الى العربية المغربي معن عاقل، ونشرها “المركز الثقافي العربي” في بيروت والرباط، “يؤرخ” كونديرا لعلامات “سلطة إغراء” النساء التي “لم تعد تتركّز في أفخاذهن أو أردافهن أو نهودهن، إنما في الحفرة الصغيرة المدورة التي تتوسط أجسادهن”. وعلى مذهبه الروائي يذهب في استنطاق بطله  في “حفلة التفاهة” ألان السائر في شارع باريسي: حين كانت الفخذان مركزَ الإغراء الأنثوي، كان “ينبغي” أن تكونا “طويلتين”، كناية عن “صورة مجازية لطريق طويل وجذاب”. وهذا ما كان “يسبغ على المرأة، حتى في المضاجعة، ذلك السحر الرومنطيقي لما هو عصيّ على المنال”.

هجاء الولادة
مجددا في رواية الخلود يطرح الأصعب: فمن لم يتمكن طوال حياته من قطع حبل السرة الذي يربطه بأمّه التي تكره الإنجاب وأُرغمت عليه، ها هي أمُّه تناجيه قائلة: “دوماً بدا لي أنه من المرعب إرسال شخص إلى العالم من دون أن يطلب ذلك”. لكن الأشد رعباً هو أن “لا أحد موجودٌ بإرادته”. هذه هي “الحقيقة الجوهرية بين جميع الحقائق”، سوى أن الجميع “كفّوا عن رؤيتها وسماعها”، لأن لا جدوى من التفكير فيها. أما ما “يهذون” به عن “حقوق الإنسان” فليس سوى “طرفة”، بل ترهات و”تفاهات”، ما دام الوجود نفسه “لم يتأسس على أي حق” أوليّ أصيل: إرادة الإنسان أن يولد. مَن هذه حاله كيف يمكنه اختيار أي شيء جوهري وأصيل في حياته؟! وها هم “فرسان حقوق الإنسان” لا يسمحون لأحد بأن “ينهي حياته بإرادته”. وما يفعله البشر في الفسحة الزمنية الفاصلة بين غياب هاتين الإرادتين – إرادة الولادة وإرادة الموت – ليس سوى “قتل الوقت الذي لا يعلمون ماذا يفعلون به” (كونديرا)، والذي “لا ينقضي” (بسام حجار)، ويقترح عباس بيضون ابتلاعه أو اجتيافه “بجرعات كبيرة” حتى “خلاء هذا القدح”. أما إميل سيوران فوضع كتاباً خاصاً في هجاء الولادة سمّاه “مثالب الولادة”. ما يقترح كونديرا على الإنسان أن يفعله في الفسحة الزمنية بين امتناع الإرادتين، هو “حب التفاهة” باعتبارها “جوهر الوجود” والحاضرة “على الدوام وفي كل مكان: في الفظائع، والمعارك الدامية، وفي اسوأ المصائب”. وإذا كان صاحب “المزحة” قد بنى عالمه على التهكّم والعبث والدعابة والمرح والسخرية المرّة، فإنه في ختام روايته هذه يضيف التفاهة إلى ذلك العالم بوصفها “مفتاح الحكمة” و”مفتاح روح الدعابة”.

هذا هو كونديرا
ميلان كونديرا، هو كاتب وفيلسوف فرنسي من أصول تشيكية، ولد في الأول من نيسان عام 1929، لأب وأم تشيكيين. كان والده لودفيك كونديرا عالم موسيقى ورئيس جامعة جانكيك للآداب والموسيقى ببرنو. تعلم ميلان العزف على البيانو من والده، ولاحقا درس علم الموسيقى والسينما والآدب، تخرج في العام 1952 وعمل أستاذاً مساعداً، ومحاضراً في كلية السينما في أكاديمية براغ للفنون التمثيلية. نشر أثناء فترة دراسته شعرا ومقالاتٍ ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية.
التحق بالحزب الشيوعي في العام 1948، وتعرض للفصل هو والكاتب جان ترافولكا عام 1950 بسبب ملاحظة ميول فردية عليهما، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.

غلاف الترجمة العربية لرواية “كائن لا تحتمل خفته”
نشر في العام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب هام إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى غراميات مضحكة.
فقد كونديرا وظيفته عام 1968 بعد دخول الاتحاد السوفياتي إلى تشيكوسلوفاكيا، بعد انخراطه فيما سُمّي ربيع براغ، اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975 بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنوات، وعمل أستاذا مساعداً في جامعة رين ببريتانى (فرنسا)، حصل على الجنسية الفرنسية عام 1981 بعد تقدمه بطلب لذلك إثر إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه عام 1978، كنتيجة لكتابته روايته “الضحك والنسيان”. تحت وطأة هذه الظروف والمستجدات في حياته، كتب كونديرا “كائن لا تحتمل خفته” عام 1984 ، التي جعلت منه كاتباً عالمياً معروفاً لما فيها من تأملات فلسفية، تنضوي في خانة فكرة العود الأبدي لنيتشة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

لمحة سريعة عن “مواقف” أحمد الشّرع

دمشق   أكثر من شخصية يتشكّل منها أحمد الشرع. هو أبو محمد الجولاني مؤسّس جبهة النصرة. وهو “موحّد الفصائل العسكرية”، ومطلق إدارة سياسية جديدة في…

الجولانيّ: من “الموصليّ” الرّاديكاليّ إلى “الشّرع” البراغماتيّ

خطفَ الأنظار زعيم “هيئة تحرير الشّام” (“جبهة النّصرة” سابقاً) أبو محمّد الجولاني. منذ انطلاق العمليّة العسكريّة في حلب وإدلب وحماة وصولاً إلى حمص. تصدّرَ اسم…

حكاية دقدوق: من السّجن في العراق إلى الاغتيال في دمشق! (1/2)

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

فتح الله غولن: داعية… هزّ عرش إردوغان

ثمّة شخصيات إسلامية كثيرة في التاريخ توافَق الناس على تقديرها واحترامها، مع ظهور أصوات قليلة معترضة على نهجها أو سلوكها أو آرائها، لكنّها لم تتمكّن…